مقالات عامة

المنافسة عند القمة تحتدم

جميل مطر

مايكل بريتشر، أستاذ العلاقات الدولية في كبرى جامعات أمريكا الشمالية، كان يفتتح الفصل الدراسي الأول لطلاب العلوم السياسية في جامعة ماكجيل بكندا بسلسلة محاضرات تحت عنوان «النظام الدولي الصيني». كانت الصين حتى القرن السادس عشر بمساحتها الهائلة، وشعوبها وثقافاتها المتنوعة، وكياناتها السياسية الفرعية، حسب رأيه، نظاماً دولياً مكتمل الأركان. تذكرت الأستاذ والحوارات الطويلة التي امتدت بيننا سنوات، وتذكرت بوجه خاص نظريته عن نشأة وصعود، ثم انحسار حتى انهيار النظام الدولي الصيني، بينما كنت أتابع في الأيام الأخيرة الحملة التي تقودها الدبلوماسية الأمريكية لتحذير دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا والشرق الأوسط من نوايا وخطط الصين للهيمنة. تابعت الحملة، وأتابع تصعيدها متأثراً بعاملين، أولهما سخرية الموقف حين نعيش لنرى الولايات المتحدة، القوة العظمى التي مارست الهيمنة- كما لم تمارسها قوة أخرى في العصر الحديث- تحذر الدول التي عانت ويلات الهيمنة الأمريكية من بوادر هيمنة صينية محتملة. ثانيهما الالتفات المتأخر من جانب الدبلوماسية الأمريكية لخطورة ما حققته بالفعل الاستراتيجيات الصينية الهادفة إلى إعادة تشكيل العالم بنكهة صينية.
تعرضت الصين منذ القرن السادس عشر لهجمة اشتركت فيها معظم القوى الغربية وفي صدارتها- خاصة في المرحلة الأخيرة من الهجمة- الولايات المتحدة. انفرط النظام الدولي الصيني، مستخدماً أحد مفاهيم بريتشر، ونشبت الحروب الأهلية وجاعت شعوب الصين، وأهينت مكانة مراكز الحكم وفرض الغرب، خاصة بريطانيا، على الشعب الصيني إدمان الأفيون. واستمرت هيمنة الغرب في أشكال مختلفة وآخرها سياسة فرض العزلة على الصين بعد الحرب العالمية الثانية، ووصول ماو وحزبه إلى الحكم. واقع الأمر يشهد بأن عزل الصين بعد الحرب لم يختص به الغرب وحده، بل شاركت فيه القيادة الصينية التي أرادت فسحة من الوقت تعيد خلالها بناء بعض ما خربه الغرب، والعمل بسرعة نحو استعادة عظمة الإمبراطورية الصينية.
وبعد مرور أربعين عاماً على فك العزلة التي فرضتها أمريكا على الصين، تقف الدولتان الآن على حافة وضع طال أمد انتظاره عند محللين عديدين. دولتان تتنافسان على وضع «الدولة الأولى» بتولي شرف القيادة ومسؤوليتها. إحداهما تريد استعادة مكانتها قطباً أوحد، والثانية تسعى لاستكمال صعودها وإثبات حقها في احتلال مكانة القوة الأعظم، أو الشريك الكامل في القيادة. الدولة الساعية لاستعادة المكانة، وأعني أمريكا، تواجه تحديات وصعوبات كبيرة. نكاد نحكم على أمريكا بأنها شاخت قبل الأوان.
للصين الصاعدة بسرعة- بعد عقود من الخطوات المحسوبة والناعمة- مشكلاتها هي الأخرى. أولاها وأهمها شيخوخة سكانها، شيخوخة ستقف عقبة في مرحلة قريبة. لديها أيضاً مشكلة الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين الداخل ومقاطعات الساحل، ومشكلة الأقليات وعددها خمس وخمسون أقلية، هي نقطة الضعف الخطيرة في البنيان الصيني. للصين حدود برية مع أربع عشرة دولة. يحمد لها، أي للصين، نجاحها في تسوية جميع نزاعاتها الحدودية ما عدا نزاعها مع ميانمار الذي هو خلاف قبلي بين أهالي المنطقة، ونزاعها مع الهند. استفادت الصين من استراتيجية الصعود المتدرج والهادئ التي أوصى بها الرئيس دنغ قائد عملية التحول الرأسمالي لتسوي القضايا العالقة مع أغلب دول الجوار. استطاعت كذلك أن تبني مؤسسات دولية موازية للمؤسسات التي أقامها الغرب بزعامة أمريكا. أقامت بنكاً للتنمية ومجموعة شنغهاي الاقتصادية والبريكس. حاولت، خاصة في المدة الأخيرة، تأكيد أنها تحترم قواعد العمل في النظام الدولي، وجميعها قواعد وضعها الغرب. التزمتها في وقت ترفض فيه الولايات المتحدة الالتزام بها، إلى درجة أنها صارت مدانة بتهمة التخلي عن حلفائها الغربيين.
وبفضل السياسة الأمريكية خلال الفترة الأخيرة ،ازداد اقتراب حلفاء أمريكا من الصين، وكثير من قادتهم هرعوا إلى الصين لصياغة وتوقيع استراتيجيات تعاون مشترك. وساهم في ذلك انكشاف الفشل الرهيب لأمريكا في معظم تدخلاتها العسكرية في الخارج، فشلت في العراق، حين خلفت بتدخلها كارثة تاريخية حلقاتها متصلة ومتواصلة. فشلت في أفغانستان وفشلها المستمر هناك أنهك اقتصادها، وأساء إلى سمعة مؤسستها العسكرية، أي إلى قلب قوتها الصلبة. واقع الأمر أن لا أحد مع أمريكا باستثناءات قليلة أغلبها غير مطمئن تماماً إلى كفاءة وقدرات أمريكا الراهنة.
لا سبيل لمنع صعود دولة تطمع في احتلال القمة إلا باستخدام وسيلة، أو أخرى من وسائل العنف. تيار آخر يرفض استخدام العنف أولاً، لأن لا حل عسكرياً يفيد في وقف دولة تصعد اقتصادياً إلى القمة، وهذا ما تفعله الصين، ثانياً لأن التفوق العسكري الأمريكي لم يعد أمراً مفروغاً منه، بل هو الآن محل شكوك قوية. لا أحد يجهل أن الصين تجوب اليوم ببوارجها، وحاملة طائراتها المحيط الباسيفيكي وترسو قرب شواطئ جوام، وهاواي الأمريكيتين، واقع لم يكن موجوداً طوال فترة الهيمنة الأمريكية المطلقة على المحيط الهادي.
قد تثبت الشهور والأعوام القليلة القادمة أن تسارع قفزات الصعود الصيني يمكن أن يساعد على خروج أمريكا من أزماتها الراهنة. أتصور أيضاً أن الغرب لن يقف طويلاً متفرجاً بهدوء على الصين تصعد نحو القمة الدولية، يراها وهي تزيح جانباً وربما نهائياً الغرب وحضارته، يسمعها وهي تملي عليه قواعد عمل مختلفة، وأنماطاً ثقافة مغايرة، أليس هذا هو ما تفعله عادة القوة الأعظم المهيمنة؟ لا أظن أن الغرب سوف يسمح بذلك، وعندما أتحدث عن الغرب فأنا لا أغفل عن حقيقة أن روسيا في نهاية الأمر جزء من الغرب، وأنها لن تقبل بأقل من استمرار حضارة الغرب، وهيمنته على العالم.

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى