المنعطف الأمريكي لفكر النهايات وحروب الأديان
الحسين الزاوي
يعيش العالم في ظل حكم ترامب سلسلة متواصلة من المنعطفات التاريخية التي تؤكد هذه المرة أكثر من أي وقت مضى أن المجتمعات البشرية دخلت فعلاً مرحلة جديدة من التحولات على مستوى العلاقات الدولية بعد أن أطلق مؤخراً ساكن البيت الأبيض، رصاصة الرحمة على مسلسل السلام المزعوم في الشرق الأوسط. فقد دشن ترامب، من خلال إقدامه على الاعتراف بالقدس عاصمة «لإسرائيل»، منعطفاً جديداً في الحروب الدينية، وأنهى عقوداً من المشروعية الدولية المتعثرة وجعلها تبدو متهافتة وفاقدة للمصداقية، وأطلق حدوداً وجدراناً سميكة بين الدول والشعوب والحضارات. كما أعطى انطلاقة جديدة لكل أشكال التطرف والتعصب والانغلاق السياسي والعرقي، وجعل بلاده تغرّد خارج سرب منظومتها الغربية، ودفع حلفاءها إلى الشعور أكثر من أي وقت مضى أن واشنطن تقود المجموعة الدولية والدول الغربية وخاصة الأنجلوساكسونية منها، نحو الإفلاس الذي يصل إلى مستوى الفوضى المؤسسية بحسب تعبير وزير الخارجية الفرنسي جون إيف لودريان.
تشير مجمل المصنفات التاريخية والسياسية المعاصرة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تستمتع بلعبة حروبها الدينية والطائفية منذ ثمانينات القرن الماضي، من خلال دعمها لما سمّي بالجهاد الأفغاني ضد السوفييت، وكان لها في هذا السياق دور إعلامي كبير في إشاعة الكثير من القصص الخيالية المتعلقة بمزايا وقوة الشعور الديني للشعب الأفغاني ودور كل ذلك في مواجهة الترسانة الحربية للجيش السوفييتي؛ ثم قامت بعد ذلك باجتياح العراق وأشعلت بداخله حرباً طائفية مدمّرة بعد أن عمل رئيسها برفقة المحافظين الجدد على تقسيم العالم إلى ما أسماه بمحوري الخير والشر. وقد لعبت المخابرات الأمريكية في السياق نفسه، دوراً بارزاً في انتشار الإرهاب العابر لحدود الدول في مختلف أصقاع المعمورة، واستفادت واشنطن أكثر من غيرها من استفحال خطر هذه الظاهرة التي أسهمت في مقتل الملايين من البشر وفي زعزعة استقرار العديد من الدول، وأضحت صلاتها بالتنظيمات الإرهابية الكبرى مثل القاعدة وداعش، مؤكدة تدعمها تصريحات رسمية ووثائق سرية جرى تسريبها من قبل أطراف أمريكية وغربية على حد سواء.
ونستطيع أن نلاحظ عطفاً على ما تقدم، أن ترامب حرص منذ اليوم الأول لتسلمه لمقاليد الحكم في البيت الأبيض على إعطاء طعم دينية جديدة لبرنامجه الرئاسي، عندما أكد أن محاربة ما أسماه بالتطرف «الإسلامي»، سيشكل إحدى أولويات إدارته على مدى السنوات المقبلة، متناسياً بذلك أن التطرف والإرهاب لا دين لهما ولا يمكن أن ننسب مثل هذه الظواهر المنحرفة والشاذة إلى عقيدة سماوية مسالمة بعث الله رسولها الكريم ليكون رحمة للعالمين. ذلك أن اليمين المحافظ في واشنطن ومعهم كل النخب المرتبطة بالمجمّع الصناعي – العسكري الأمريكي، يعلمون علم اليقين، أنه لا وجود لوقود سريع الاشتعال قادر على إشاعة الفوضى وعلى تدمير الدول، أفضل من الدين الذي يمثل المعطى الرمزي الأكثر قدرة على حشد الناس وعلى دفعهم إلى التضحية من أجل الدفاع عن عقائدهم.
وفضلاً عن هذا الاستثمار المدمّر وغير الأخلاقي للدين، فإن أمريكا ومعها القسم الأكبر من نخبها السياسية والفكرية، سعت أيضاً لأن تكون بطلة المشاريع المتعلقة بفكر النهايات، فبعد حديثها عن نهاية التاريخ الذي بدأ مع سقوط حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي، يقوم السيد ترامب الآن بدق آخر مسمار في نعش المشروعية الدولية التي أكدت منذ عقود من الزمن على أن القدس أرض محتلة، وهو بذلك يعمل بجدية وتفان على إتمام ما بدأه سلفه جورج بوش الابن من تجاوز واستخفاف للقوانين الدولية، عندما اتخذ قراره المنفرد باحتلال العراق، اعتماداً على حجج كاذبة تتعلق بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل. وبالتالي فإن أمريكا التي لا حضارة ولا تاريخ لها، عجزت، من خلال الإقدام على الاعتراف بالقدس عاصمة «لإسرائيل»، عن إدراك البعد الرمزي الكبير الذي تختزله وتحيل إليه مدينة القدس بوصفها تمثل تراثاً مشتركاً للإنسانية وينبوعاً دافقاً من الإيمان والقيم الروحية يجمع ما بين كل الأديان السماوية، وليست مجرد عاصمة دينية تحتكرها مجموعة من المهووسين وشذاذ الآفاق، وأنها بكل بساطة مدينة العالم، وعالميتها تتجاوز معطيات الزمان والمكان وتقلبات الجغرافيا السياسية، لأنها وجدت قبل أن توجد حواضر كبرى مثل نيويورك وباريس ولندن، وستبقى بعد أن تصبح تلك الحواضر نسياً منسياً، وستظل رهاناتها الكبرى تتجاوز رهانات الحسابات السياسية الآنية والظرفية.
لقد أنهت سياسات ترامب المشينة وسلوكياته النزقة والمستهترة وفق ما ذهب إليه الكثير من المراقبين الدوليين، زعامة الولايات المتحدة للعالم الغربي، وأسقطت دورها كوسيط في الصراع العربي- «الإسرائيلي» وفي العديد من الملفات الدولية الكبرى، ودفعت أصدقاء بلاده قبل خصومها إلى التبرؤ من قراراته وإلى الاشمئزاز من كلامه الجارح ومن هذيانه الذي يسكبه كالزيت على نيران «تغريداته» التي ينشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وإذا استمر الوضع على ما هو عليه من تشنج حضاري واستقطاب ديني وتطرف عنصري، فإن ولاية ترامب الرئاسية لن تنتهي، إلا وقد دخل العالم مرحلة غير مسبوقة من المواجهة المبنية على ثقافة الكراهية ورفض الاختلاف، مرحلة يغيب فيها وهج العقل ويسطع فيها من جديد نجم الكراهية العرقية والدينية الموروث عن مرحلة القرون الوسطى، ويكون فيها «الآخرون هم الجحيم» وفق تعبير الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر.
hzaoui63@yahoo.fr