مقالات عامة

الموت على الشاشة

د. حسن مدن

يَحكي كتاب عن «الإنسان في العالم الحديث»، هو عبارة عن حوار مطول بين مجموعة من الفلاسفة، ما قرأه في صحيفة أمريكية أحد المشاركين في الحوار، وقبل سنوات طويلة، حيث لم تكن وسائل الاتصال الحديثة بالشيوع التي هي عليه اليوم، أن جمعاً من الناس وقفوا مكتوفي الأيدي حينما صعق تيار ضغط عالٍ صبياً صغيراً. كان بالإمكان إنقاذ الصبي، ولكن أحداً من الواقفين لم يتحرك محاولاً أن يفعل شيئاً في سبيل ذلك.
هل كان الواقفون خائفين من أن يصعقهم تيار الضغط العالي؟
نعثر على جواب عن هذا السؤال بالنفي. لم يكونوا خائفين، بل الذي حدث أن كلاً منهم كان منبهراً بمشهد ذاك العذاب المطول، حيث استقبلوا حادثاً حقيقياً كما لو كانوا يشاهدون عرضاً بالتلفزيون، وبدا لهم ما جرى كأنه مشهد رأوا نظيراً له من قبل، وعدة مرات، على شاشات تلفزيوناتهم.
من أورد هذه الحكاية تساءل: أيكون الإنسان فقد إنسانيته، أم أنه بلغ مرحلة لم يعد يميز فيها بين الحقيقة والوهم؟
في مقال قديمٍ، يعود لثمانينات القرن الماضي، روى جابرييل ماركيز كيف أنه عاد إلى بيته، ذات مرة، في وقتٍ متأخر من الليل، ليجد زوجته مندمجة في متابعة التلفزيون، حيث شاهد على الشاشة مشاهد عنف وإطلاق نار، فأبدى لها اندهاشه من اختيارها متابعة أفلام من هذا النوع، لكن الزوجة ردّت بأن ما تشاهده ليس فيلماً وإنما هي مواجهات في السلفادور بين القوات الحكومية والثائرين ضدها.
هذا مثال آخر على حقيقة أن الحقيقي جداً، حد البشاعة والفاجعة، ينقل مباشرة على الهواء، مفقداً من يشاهده، في الغالب، دهشة ورهبة القتل، وبسبب التكرار الدائم لهذه المشاهد، بات الأمر مألوفاً، لأن الدهشة الأولى قد انتفت، فتكرار المشاهد والمعاينات، حتى لو كانت الموت نفسه، يحيد في نفوس من يشاهدها مُصورة، ما يفترض أن تثيره من استفظاع وغضب، أو أنه، في أحسن الحالات، يُنفس الكثير من هذا الغضب.
وقف الناس مكتوفي الأيدي أمام منظر الصبي الأمريكي والتيار يصعقه، وكان ضحية تلك الواقعة، على هولها، صبي واحد، لكننا بتنا نشاهد في نشرات الأخبار المتلفزة كل نهار وليل مناظر المسعفين، ومن قدر لهم النجاة من ويلات القصف في الحروب المتواصلة يركضون في اتجاهات مختلفة وبين أكفهم عشرات الأطفال الصغار من قتلى ومصابين والدماء تنزف من أجسادهم الغضة، بعد أن أخرجوا من تحت ركام المباني التي دكت وسويت مع الأرض، فينتابنا لحظتها شعور بالخزي لأن هذه المشاهد لكثرة تكرارها أصابت محفزات الوجع لدينا بالتبلد، فالحاجز بين الواقعي والمتخيل انتفى، وانتابنا الوهم بأن ما نراه مجرد صور على الشاشة، لا أجساداً حقيقية من لحم ودم تزهق منها الأرواح، وتستحيل إلى أشلاء ممزقة.

madanbahrain@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى