قضايا ودراسات

الموصل ومنهج التدمير

محمد خليفة
حذرت الأمم المتحدة، يوم الجمعة الماضي، من تزايد عدد القتلى المدنيين غرب الموصل. وقال مجلس حقوق الإنسان، التابع للمنظمة الدولية، إن لديه تقارير موثّقة بأن تنظيم «داعش» قتل أكثر من 230 مدنياً أثناء محاولاتهم الفرار.
وتعيش الموصل مأساة إنسانية، بكل معنى الكلمة، ترويها دماء المدنيين الأبرياء، وتشهد عليها أرواح الأطفال الذين حصدتهم آلة الحرب، وسط صمت العالم، ما يجسد حالة الضعف والتشرذم على المستويين العربي والأممي. فالموصل، إلى جانب ما يجري في سوريا، وليبيا، هي جرح جديد في جسد العالم العربي، الذي أدمته الجراح وأقعدته؛ فلم يعد يقوى على تحمل المزيد.
المدنيون الأبرياء يعيشون وضعاً مأساوياً وخطراً، أغلبهم يبيتون في العراء، يوقظهم لهيب الشمس التي لا ترحم، بعد أن تم تدمير بيوتهم وأُخرجوا من ديارهم، وقتل الكثير منهم، ووضعوهم في مقابر جماعية. ويكفي أن نشير إلى أن هناك آلاف النازحين، اضطروا للفرار من الموصل، يبحثون عن مكان يأويهم، ناهيك عن الحكايات المأساوية التي يرويها المشردون عن الممارسات الوحشية التي اقترفها «داعش».
هذا العالم، الذي صنع هذه المأساة، يريد للإنسان العراقي أن يحيا دائماً في قلاقل واضطرابات، وأصبح المستقبل أمامه ضبابياً؛ حيث أصبح الأطفال، مستقبل أي أمة، شظايا في لحظات الانفجارات المباغتة. هؤلاء الأطفال الحالمون بكراسات الرسم، وعلب الألوان كي يرسموا قوارب ذات أشرعة في دجلة والفرات، تستحيل مدرستهم الترابية الصغيرة البسيطة إلى ساحة لموت سريع، أو موت متفجر، بعد أن حرموا من خبز الأحلام، وتوقفت حناجرهم أن تصدح بالنشيد الوطني في طابور الصباح. كل يوم يستيقظون على أنات الثكالى، وأصوات المكلومين، ويقتحم الدمع مآقيهم بالذكريات الفاجعة بالعذاب، بعد أن مات وقتل مئات الأطفال، ورحلوا سريعاً كالياسمين. فهكذا يتجدد العنف وهكذا تواصل الفتنة حصد أرواح الأبرياء.
إن المحن التي يواجهها أهل الموصل في حاضرهم المحزن، وما يطحنهم من حروب، وما ينالهم من أسى، وما يصيبهم من عذاب، هي سهام موجهة ليست من «داعش» فقط؛ بل من صانعيها؛ لذا سيدفع الكثيرون ثمن ما يعانيه أهل العراق، وسوريا وليبيا، فحتماً سينقلب السحر على الساحر، عندما يستفحل خطر «داعش» وتخرج عن السيطرة، فسيدفع الآخرون الثمن آجلاً، ما دفعه العراقيون عاجلاً.
ولعل، من نافلة القول، أذكّر القارئ بما كتبه هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي في عام 2003، حيث قال: «نحن الآن في نقطة يصبح معها الفشل في العراق كارثة للغرب؛ لأن هذا سيشجع كل العناصر المتطرفة، وكل الذين يعتقدون بأن الغرب في حالة ضعف وتراجع، ومن هنا تنبع أهمية التعاون بين أوروبا وأمريكا في العراق». وأضاف: «الحرب على العراق ذاتها وأثرها في استقرار العراق، يمكن القول إنها ستجعله غير مستقر على المدى القصير، وأكثر استقراراً على المدى الطويل إذا ما تصرفنا بحكمة، وأحسب هنا أنه، وإذا لم يبق الأمريكيون في العراق المتوقعة، ستكون في مواجهة خطر كبير؛ ولذلك فعليهم البقاء لفترة طويلة. هذا التصريح الذي نُشر في خدمة تريبيون أنترناشيونال، الذي يفسر الواقع بهذا الفهم، أي إنه يضع مقاييس ومبادئ خارجة عن الواقع، ومفارقة له، ثم يسعى لتغيير الواقع. فيعتقد أن الحروب هي الفترات التاريخية الحقيقية، فهي التي تستفز الشعوب، وتحقق فيها الأمم قفزات هائلة لم تكن لتحدث لولا الحروب، بينما تعتبر فترات السلام خالية من المنجزات والأحداث الحقيقية.
وترتكز أفكار كيسنجر على منهج الديالكتيك أو الجدل، وهو يعني أن التطور والتقدم في الفكر والطبيعة يقوم عن طريق تقابل الوضع مع سلبه أي: نقيضه. تلك التصريحات أصبحت هي الملامح العريضة لعالمنا العربي في هذه الأعوام، فالمفكرون الذين كانوا يعتقدون بأن البشرية دخلت في عهد جديد، وأن عهد القانون الدولي قد أزف، قد أصيبوا بخيبة كبيرة، فالعالم لا يزال خطراً، مثلما كان أثناء الحرب الباردة وربما أكثر، والظلم لا يزال سائداً، ومنطق القوة هو المهيمن، والصراعات العرقية والطائفية تشتعل في مختلف دول العالم، وتنفجر في أغلب الدول القنابل، ويتم قتل الأبرياء والمذابح والقصف بالقنابل والصواريخ في سوريا وليبيا والعراق؛ بسبب الانفلات العقدي، والتحجر الفكري، وزعزعة القيم والقواعد الأخلاقية، أمام مجتمع متأزم أخلاقياً ومادياً وروحياً، أمام أشخاص يدمجون الحاضر والمستقبل في الماضي؛ وذلك لأن غريزتهم التي تجافي العقل، هي التي ترسم للسلوك مساره وتحدد أهدافه. وهكذا تكون أفعالهم نوعاً من الأفعال المنعكسة تخرج عن دائرة الإرادة والتحكم، ويتميز هؤلاء بالمغامرة والتأمر، ويستجيبون للإحباط باللجوء إلى التدمير والقوة والعدوان.
ومن الثابت أن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق لا يزال أميناً لماضيه في استراتيجية تحتية وتكتيكية، وبخاصة في صراعات الدول العربية، التي أثرت في تدمير الأوطان، وتسببت في العزلة الاجتماعية والديماغوجية الإيديولوجية. وهكذا يتبين أن المذهب الفعلي الذي يحكم سلوك السياسيين في الغرب ويوجههم، هو الداروينية الاجتماعية: التي ترى في المجتمع غابة يسودها تنازع البقاء، حيث يكون البقاء للأقوى لا للأصلح.

med_khalifaa@hotmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى