الموظف النشيط الغبي
محمد القبيسي
نظن أحياناً أننا بعد أن نكتسب خبرة تتعدَّى ربع قرن تصبح لدينا معرفة بكل شيء، ولكننا في الحقيقة نظلُّ تلاميذ نتعلم من مدرسة الحياة على الدوام ونواجه كل يوم بوصفنا قياديين أصناف متنوعة من البشر، ورغم التصنيف والتعريف لأنواع الموظفين إلا أننا نكتشف أن التصنيف ناقص لأننا لم نضفْ إليه نوعاً خاصاً من الموظفين أحب أن أسميه ’الموظف النشيط الغبي‘، قد يكون التصنيف غرائبياً نوعاً ما لكنه موجود على أرض الواقع، وكلّي يقين أن كثيراً من الزملاء القدامى سيتواصلون معي بعد قراءة هذه المقالة ليأكّدوا لي وجود مثل هذه النوعية من الموظفين قد مرت على احدهم.
أما في الثقافة الغربية فلا أدري مصدراً آخر لهذا الاقتباس الحكيم غير أنه كما يُقال جاء على لسان القائد البريطاني الفذَّ برنارد مونتغمري الذي سُئل ذات مرة: «كيف تصنّف جنودك؟ فأجاب: عندي أربعة أنواع من الجنود: الذكي الكسول، والذكي النشيط، والغبي الخامل، والغبي النشيط. وبقدر ما أتمنى أن يزيد عدد الأذكياء النشيطين بقدر ما أخشى من الغبي النشيط». في الثقافة العربية نقل أبو حامد الغزالي في كتابه ’إحياء علوم الدين‘ عن الخليل بن أحمد أنه قال: «الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه».
لا غرابة في أن تطرح الثقافة الغربية والعربية توصيفاً مشتركاً لأصناف البشر، سواء كانوا موظفين ام مجرد أشخاصاً عاديين، ذلك أن الناس متقاربون من حيث طبيعتهم السيكولوجية مهما اختلفت منابتهم، فكما حذَّر مونتغمري من الجندي الغبي النشيط حذَّرنا الخليل من الجاهل الذي يظنُّ أنه عالم بكل شيء وهو لا يدري شيئاً.
وضمن المؤسسات اليوم قد يوجد مثال على الموظف الغبي النشيط، ذلك الذي يكاد لا يغادر مكتبه ويعمل طيلة اليوم دون كلل أو ملل، كأنه مولّد كهربائي بطاقة لا تنضب، ولربما هذا النوع من الموظفين يجذب أصحاب العمل في البداية لكنه لا يلبث أن يرتكب عشرات الأخطاء هنا وهناك، ويزداد خطره شدَّة في حال اعطاءه مهمة او عمل، فيظن نفسه بانه المسؤول الكبير وليس هناك احدا فوقه يرجع اليه، ومهما تحاول ان تخبره وتعلمه وتفهمه بان هناك انظمة وقوانين ومراجع لابد ان تتبعها ينظر اليك نظره ويهز راسه وتظن انه فهم ولكن لا حياة لمن تنادي، ويعتقد أنه يضيف إلى الشركة قيمة لكنه في الحقيقة أشبه بمن يحاول قيادة سفينة دون أدنى معرفة بقوانين الملاحة ولا إلى أي وجهة يتجه ولا كيف يقود إلى برّ الأمان، فهو لا يرى أبعد من أرنبة أنفه.
أما أكثر من يعاني من الموظف الغبي النشيط فهو المدير الذي يضطر للتعامل مع شخص لا يستطيع استيعاب ما يُقال له وتنفيذ ما يطلب منه ولا يحسب العواقب ولا يقبل أي فكرة جديدة تختلف عمَّا عهده من أفكار، كما يقبل بالأمر الواقع دون أدنى محاولة لتغييره، والأخطر من ذلك كله أنه لا يتعلَّم من أخطائه مهما حصل ويظن أنه يملك مفاتيح كل شيء وحلول كل الألغاز المستعصية وهو لا يملك علماً بشيء.
أظهرت دراسة حديثة أن الأغبياء والحمقى في العمل يشكلون خطراً على صحة الإنسان مثل السجائر والكافيين والأطعمة الدسمة، حيث يوضح المستشار الأول في جراحة القلب والأوعية الدموية د.ليث أبو نوار أن التوتر هو أحد أسباب الجلطات الرئيسية، والعمل مع مثل هذا النوعية من الموظفين بشكل يومي يعد من أخطر أشكال التوتر الذي يصيب الإنسان، وتبيّن رئيسة فريق البحث د. داغمار أندرسون أن زملاء العمل الأغبياء يمكن أن يضاعفوا العمل على الآخرين، وتقول: ’غالبية الذين أجرينا الدراسة عليهم، كانوا يشعرون بالحزن والشفقة على الأغبياء، وكانوا يقومون بالتغطية عليهم بإصلاح أخطائهم أو القيام بوظائفهم عنهم.
لذا نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى ادارات موارد بشرية ذكية، فتضع كل نوع من أنواع الموظفين في المكان الملائم، يختارون الموظف الذكي النشيط للأعمال التي تتطلب الإبداع والابتكار، ويعملون على تحفيز الموظف الذكي الخامل، في حين يكلّفون الغبي الكسول بأعمال يدوية أو مهام بسيطة لا تحتاج قدراً كبيراً من الذكاء مع المراقبة والمتابعة المستمرة لأدائه.
مشكلة الغبي النشيط اعتقاده بأنه أفضل العاملين وأكثرهم اجتهاداً، في حين أنه يبذل جهداً مبالغاً غير مدروس ولا يقدّم أي جديد سوى حلوله غير المجدية وآراءه التي تفتقر إلى الخبرة والثقافة، يتصرف أو يتخذ قراراً دون أن يحسب أبعاده، لا يدري أنه لا يدري، فثقته الزائدة بنفسه تبلغ حدَّاً يصعب معها مخاطبته وتوجيهه، كأنه يحيا في برج عالي لا يصل إليه أحد، وفي نهاية المطاف يسقط من على برجه الورقي مسبّباً الخراب لمن حوله، لكنه يظلُّ متعنتاً لموقفه مغترَّاً بنفسه لا يسمع صوتاً غير صوته ولا يرى غير ما يريد أن يراه، أصدق ما قيل عنه يوماً قول هنري ميلر: «بإمكان المرء أن يقاتل الشر ولكن ليس بإمكانه أن يقاتل الغباء».
قيل على لسان أحدهم أن “الغبي هو الأكثر خطورة على الإطلاق”، بل أخطر من قطاع الطرق واللصوص، فالأغبياء يلقون بالمجتمع كله إلى الهاوية. لكن لا بد أن تلد الحياة مثل هذه النوعيات من البشر كل حين فهذه سنة الكون، لذلك لا سبيل إلى اجتناب التعامل مع أمثال هؤلاء، لكن المؤسسة الناجحة هي التي تتمتَّع بآلية فرز تمكنها من تقييم أداء كل موظف ووضع كل نوع من أنواع الموظفين في المكان المناسب بما يضمن عدم الإضرار بمصالحها وسير المهام المختلفة وفق أسس مدروسة تقود سفينة العمل إلى الجزيرة المنشودة، ولربما نصف مصيبة أن تحظى بموظف غبي نشيط، فهناك نوع أخطر منه ألا وهو ” الغبي النشيط الحسود”!