الهروب إلى التجريد
خيري منصور
بعد أن بلغ التعميم أقصاه، وكذلك التجريد في أكثر الأطروحات تداولاً حول الفساد، أصبح الأمر بحاجة إلى فك اشتباك. فالإفراط في الكلام عن الفساد وكأنه مجهول النسب، وشيء مجرد، قد يؤدي بمعزل عن سوء النوايا أو طيبها إلى تبرئة الفاسدين.
وخطورة هذا النمط من التفكير هي إقامة فاصل حتى لو كان افتراضياً بين الخيانة والخائن، وبين الفساد والفاسدين، وأخيراً بين الإنسانية كمفهوم مجرد والإنسان!
ومن المعروف تاريخياً أن الانزلاق إلى المفاهيم المجردة يعزل القيم عن البشر الذين يتعاملون معها ومن خلالها، وربما لهذا السبب مجّدت نظم الحزب الواحد الشمولية العروبة ونكّلت بالعربي ومنها ما دَبّج المدائح والمراثي لفلسطين، لكنه لم يقم وزناً لآلام وعذابات الفلسطينيين. وتكرر ذلك في الفصل بين القدس والمقدسيين من أهلها الذين يتعرضون لتهجير ممنهج، وتدمّر بيوتهم كي يتم تغيير ملامح المدينة ما يؤدي إلى تهويد تاريخي وعبْرنة جغرافية!
ولا ندري كيف يمكن إعلان الحرب على الجريمة وتجاهل المجرمين أو على الفساد بمعزل عن الفاسدين؟
إن هذا المنهج الاختزالي المخل له نتائج كارثية، وقد تنهى الحروب على مفاهيم مجردة إلى ما يشبه حروب دونكشوت على طواحين الهواء، بحيث تتكسر عليها سيوفه تباعاً، بلا جدوى!
والأخطر من ذلك كله هو عزل الإرهاب عن الإرهابيين بحيث تصبح الحرب على هدف شبحي غامض، رغم أن الإرهاب كمفهوم مجرد يتجسد في الإرهابي، وهو في النهاية حاصل جمع الإرهابيين في العالم كله!
وهنا نتذكر عبارة لخبير اقتصادي هو هانكوك وردت في كتاب «سادة الفقر» يقول فيها إن الحرب على الفقر كما لو كان مجرد فكرة مثيرة للسخرية، ويضيف ساخراً قد يتوصل العالم إلى التخلص من الفقر عبر إبادة الفقراء، وإلى التخلص من المرض بإبادة المرضى.
ومن الناحية التاريخية يزدهر التجريد في فترات تغيب عنها الروادع سواء كانت أخلاقية أو قانونية!