قضايا ودراسات

الهزيمة التي نخفيها

عبدالله السناوي
بوقع السنين وعددها وما ترمز إليه في الذاكرة العامة فإن مرور خمسين سنة على هزيمة يونيو (١٩٦٧) يدعو للوقوف أمام المرآة ونواجه أنفسنا بالحقيقة. ظلال الهزيمة مازالت ماثلة حتى الآن، كأنها لم تغادر المسرح أبداً. هذه ظاهرة يصعب نفيها.
عبرت مصر قناة السويس بقوة السلاح في أكتوبر (١٩٧٣)، وكان يفترض أن تعبر أي مشاعر لحقت الهزيمة، لكنها تكرست. لماذا حاربنا وضحينا؟ في السؤال شيء من هزيمة الروح.
النتائج ناقضت التضحيات والسياسة خذلت السلاح.
كان الوجه الآخر لتبديد ثمار النصر في أكتوبر هو تكريس الهزيمة في يونيو. بدا الأمر مقصوداً حتى لا تثق مصر بنفسها مرة أخرى حتى وصلنا إلى حافة الخروج من التاريخ. ما هو متوافر حتى الآن شهادات لقادة عسكريين يدافعون فيها عن أنفسهم، أو يتهمون آخرين بالمسؤولية.
حسب المثل الشائع فإن «الهزيمة يتيمة والنصر له ألف أب». تلك الشهادات رغم أهمية بعضها لا تؤسس لرواية مصرية موثقة ومتماسكة ومصدقة.
وثائق يونيو مودعة في خزائنها، والخزائن عليها أقفال ومتاريس.
ليس من مصلحة مصر حجب ما تقصته لجنة برئاسة اللواء «حسن البدري» المؤرخ المعتمد للجيش المصري بعد يونيو مباشرة عن أسباب الهزيمة بالأسرار والخرائط.لم يعد هناك سر واحد خاف على أحد في العالم.
الأمر نفسه نفتقده في حربي «الاستنزاف» و«أكتوبر». هناك شهادات ودراسات نشرت لكن الوثائق قضية أخرى.
للوثائق كلمة أخيرة تجيب عن كل الأسئلة: كيف هُزمنا ولماذا؟.. وكيف قاومنا وصمدنا حتى عبرنا الهزيمة في أكتوبر؟.. ثم كيف أجهضت النتائج السياسية؟
هناك فارق بين مراجعة التاريخ بالوثائق المثبتة لإدراك حقائقه وتصحيح الذاكرة العامة وتعميق الشعور بالهزيمة كقدر إغريقي لا يمكن الفكاك منه، أو نفي أسبابه.
الأولى، إعادة تصحيح دور القوات المسلحة، أو دخولها إلى غير أدوارها.أعيد بناؤها من تحت الصفر تقريباً وفق مواصفات الجيوش الحديثة، التي تعلي من شأن الكفاءة والاحتراف وتمنع الانشغال بالسياسة. وأسندت مسؤوليتها إلى نخبة من العسكريين الأكفاء في القيادة العامة، كما في كافة الأسلحة.
بصورة أو أخرى تصدر المشهد العسكري المصري أفضل ما في البلد من كفاءات متاحة. وكانت الوطنية المصرية مستعدة أن تقدم كل ما لديها من طاقات عطاء ودم بإيمان حقيقي أن البلد تحارب معركة وجودها ومستقبلها.
لم تكن مصادفة بعد أيام من الهزيمة أن تفرض قوات محدودة في «رأس العش» كلمتها على «الإسرائيليين» وتوقع بهم خسائر فادحة في لحظة انتشاء عسكري. بهذه الروح تمكنت القوات المصرية من خوض حربي «الاستنزاف» و«أكتوبر»، وكان الجندي المصري العادي بطلهما بلا منازع.
كان ضرورياً لإعادة بناء القوات المسلحة على أسس احترافية تصفية أوضاع قديمة تسببت في الهزيمة منها التدخل في الحياة السياسية، ومنها ما هو منسوب للمخابرات العامة على عهد «صلاح نصر» من انحرافات جرى التحقيق فيها.
بعض التحقيقات سربت وأغلبها مازال مودعاً في خزائن الدولة، ولا يصح أن تظل في مكامنها إلى الأبد بعيداً عن علم الرأي العام وحقه أن يعرف ما حدث بالضبط.
والثانية، إعادة النظر في طبيعة النظام نفسه.وقد ترددت في المراجعات، التي احتوتها محاضر رسمية للجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي شارك فيها الرئيس «جمال عبدالناصر»، عبارات «المجتمع المفتوح» و«دولة المؤسسات»، كما بدأ التفكير في التحول إلى التعددية الحزبية.
مثلت الهزيمة تراجعاً فادحاً في المشروع القومي، لكنها لم تكن نهاية المطاف.كانت السنوات التي أعقبت الهزيمة أفضل سنوات العسكرية المصرية، وأفضل سنوات «جمال عبدالناصر»، بالنظر إلى حجم العطاء الذي بذل.
أرجو ألا ننسى أن المصريين قرروا وسط ظلام الهزيمة عدم الاستسلام وأعلنوا المقاومة في تظاهرات (٩) و(١٠) يونيو المليونية التي كلفت «عبدالناصر» استئناف القتال. كانت المقاومة بالسلاح والدماء الجانب الآخر في قصة يونيو وما بعدها.
هكذا يبدو تعبير «النكسة»، الذي صكه الأستاذ «محمد حسنين هيكل» في خطاب «التنحي»، الأكثر دقة بوصف الإرادة المصرية الكامنة عند لحظة هزيمة عسكرية. معنى التعبير أن الهزيمة مؤقتة، وأنه يمكن تحديها وتجاوزها بتصحيح وتصويب أسبابها.
بالنتائج العسكرية ثبتت صحة وصف «النكسة».
غير أن المفارقة الكبرى أن ما هو مؤقت من انكسار عسكري تحول بالإدارة السياسية لحرب أكتوبر إلى إقرار متأخر بالهزيمة.
بين تحولات السياسة والانقلابات الاستراتيجية نشأت صناعة الهزيمة في الوجدان العام، ف«أكتوبر آخر الحروب»، و«لن نحارب بالنيابة عن الفلسطينيين والعرب لآخر جندي مصري»، كما تردد على نطاق واسع في الخطابين الإعلامي والسياسي.
جرى تسطيح قضية الصراع العربي – «الإسرائيلي»، وقضية الأمن القومي المصري الذي دافعت عنه قبل أي شيء آخر. أهدرت التضحيات الهائلة التي بذلت في ميادين القتال، ونشأت طبقة جديدة وصفت في البداية ب«القطط السمان» لتساند السلام مع «إسرائيل».
شعر جيل كامل وهب حياته لقضية تحرير بلاده بقوة السلاح بالخديعة الكاملة، فقد حارب من أجل حلم ليستيقظ على كابوس.
كانت تلك هي الهزيمة الحقيقية، التي أرادوا إخفاءها وراء تكريس «عقدة يونيو» في الوجدان العام جيلاً بعد آخر.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى