انجراف قاري.. بريطانيا وأوروبا من نهاية الإمبراطورية إلى الانفصال
تأليف: بنيامين غروب فيتزجيبون – عرض وترجمة: نضال إبراهيم
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كان رئيس وزراء المملكة المتحدة ونستون تشرشل (1940 – 1945) يسعى لقيادة أوروبا إلى اتحاد متكامل، لكن بعد أكثر من سبعين عاماً من ذلك التاريخ، صوتت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي.
يحاول الكاتب بنيامين غروب فيتزجيبون أن يروي في عمله هذا تاريخاً من الاضطرابات في علاقة بريطانيا المتوترة مع القارة الأوروبية منذ نهاية الحرب، ويشير إلى أن وجهات النظر البريطانية حول مكان المملكة المتحدة في أوروبا، لا يمكن فهمها خارج سياق إنهاء الاستعمار، والحرب الباردة، والعلاقة الأنغلوأمريكية، كما يتوقف عند محاولات السياسيين البريطانيين في ترويج «العظمة» وترسيخها بين الشعب البريطاني بهدف إقناعهم بدعم الحروب الخارجية، رغم عدم شرعيتها.
في نهاية الحرب العالمية الثانية، كان البريطانيون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم قادة إمبراطورية عظيمة والمركز الطبيعي لأوروبا، ومع انهيار الإمبراطورية البريطانية وتشكيل «الجماعة الاقتصادية الأوروبية»، طوّر البريطانيون نظرية الشكوكية الأوروبية، التي لم تكن منفصلة عن حنين ما بعد الإمبراطورية. بريطانيا تطورت من كونها جزيرة الأوروبيين الإمبرياليين إلى واحدة من المشككين في أوروبا ما بعد الإمبريالية.
يحتوي الكتاب الصادر حديثاً عن مطبعة جامعة كامبردج في 600 صفحة من القطع المتوسط، على مقدمة طويلة وجزأين يحتويان على 17 فصلاً. ويأتي الجزء الأول بعنوان «الأوروبيون الإمبرياليون» مؤلفاً من: «عالم غير مترابط»، أوروبا السيد تشرشل، استجابة السيد بيفن، المشكلة الألمانية، أوروبا مقسمة؟، المفاجأة القارية وسقوط حكومة حزب العمال، وقائع الحكومة، الفرنسي الخائن، انحدار وسقوط الأوروبيين الإمبرياليين.
أما الجزء الثاني فقد جاء بعنوان «المتشككون في أوروبا ما بعد الإمبريالية»، يتكون من: «في الستينات والسبعينات»، نحو سوق مشتركة، صعود مناهضة تجار السوق، كسوف الإمبراطورية واحتضان أوروبا، ورفض بريطانيا، دخول الأرض الموعودة؟ بريطانيا تنضم إلى أوروبا، مواسم السخط، أوروبيون بنصف قلوب، السيدة تاتشر، جون ميجور والطريق إلى الاتحاد الأوروبي، وينتهي الكتاب بخاتمة تحت عنوان «ما بعد بريطانيا الإمبريالية وصعود الشكوكية الأوروبية».
برنامج سياسي
يقول الكاتب في مقدمته: في ظهيرة يوم 7 مايو/أيار 1948، تحدّث ونستون تشرشل إلى 750 مندوباً في المؤتمر الأول لأوروبا، قائلاً: «هذه ليست حركة الأحزاب بل حركة الشعوب»، «إذا كان هناك تنافس بين الأحزاب، فليكن لمعرفة أي حزب سوف يميز نفسه أكثر لأجل قضية مشتركة». وقد دعي الجميع إلى المؤتمر بصفة فردية، علاوة على أن هذا المؤتمر، وأية استنتاجات قد يتوصل إليها، تكون لأجل صوت موحد لأوروبا. وشمل هذا المؤتمر مندوبين من مشارب مختلفة: «رجال دولة من جميع الأحزاب السياسية، شخصيات بارزة من جميع الكنائس، وأشهر الكتّاب، وقادة المهن الحرفية، ومحامون، وكبار الصناعيين، وأبرز النقابيين». لقد كان السبب المشترك لتجمعهم هو أوروبا الموحدة، وحينها ناشدهم تشرشل، الرئيس الفخري لهم، بالقول: «تعاونوا معاً ووحّدوا الحظ والرفاقيّة»، وإذا فعلوا ذلك، حينها كل أوروبا قد «تنتقل إلى عصر مشمس أكثر سعادة».
كان تشرشل يتحدث في لاهاي ليس زعيماً لحزب المحافظين والمعارضة الموالية للملك، ولا كرئيس وزراء بريطانيا السابق، ولكن كمواطن من أوروبا. والوفد البريطاني الذي قاده شمل اللورد لايتون والسيدة فيوليت بونهام كارتر، والنقابي بوب إدواردز ونواب حزب العمال كينيث ليندساي وليزلي هيل، والمحافظون ليوبولد آميري، روبرت بووثبي، والسيدة ريس ويليامز وهنري هوبكنسون.
وانضم هؤلاء البريطانيون إلى كبار الشخصيات الأوروبية الأخرى مثل ليون بلوم، جان مونيه، بول رينو، كونراد أديناور، بول هنري سباك، وبول فان زيلاند، حيث أصبحت هذه الأسماء مرادفة لقضية الوحدة الأوروبية، حتى أن الفاتيكان أرسل ممثلاً عنه بدعم جميع الأحزاب البريطانية والوفود.
وافق المؤتمر المؤلف من مندوبين وممثلين عن 15 دولة أوروبية على البرنامج السياسي الذي التزم المندوبون العمل به من أجل «سياسة موازية لاتحاد سياسي أوثق»، الذي من شأنه إن عاجلاً أو آجلاً أن ينطوي على تنازل أو على نحو أكثر دقة، ممارسة مشتركة لبعض القوى السيادية، وفي المجال الاقتصادي، اتفقوا على أن دول أوروبا يمكن إنقاذها باتحاد اقتصادي كامل، وتوفير سوق واحدة للعمل والإنتاج والتجارة. وأخيراً، أعلن المؤتمر أنه لا خطة للاتحاد الأوروبي ذات قيمة عملية دون مشاركة فعّالة من بريطانيا العظمى. المملكة المتحدة هي جزء لا يتجزأ من أوروبا. وأي اتحاد أوروبي في المستقبل سيكون متكاملاً سياسياً واقتصادياً على حدّ سواء مع وجود بريطانيا العظمى في قلبه».
حنين إلى الإمبراطورية
ويشير الكاتب إلى أنه من الصعب أن نتصور، بعد ما يقارب سبعين عاماً، أنه في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بريطانيا – وهي بريطانيا الإمبريالية، المتحالفة بشكل وثيق مع الولايات المتحدة وتتعامل مع بدايات الحرب الباردة – سعت لقيادة أوروبا في اتحاد متكامل. ربما يكون أصعب من ذلك فهم أن الإمبريالي بامتياز ونستون تشرشل أطلق لأول مرة عبارة «الولايات المتحدة الأوروبية»، وشجع الفرنسيين والألمان وغيرهم من الأوروبيين على وضع خلافاتهم جانباً والعمل معاً في قضية مشتركة بدلاً من ذلك.
ويتطرق فيتزجيبون إلى أنه في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، عندما دعا رئيس المفوضية الأوروبية، خوسيه مانويل باروسو، رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون لإظهار نوع من الشجاعة السياسية والرؤية التي كان ونستون تشرشل يتحلى بها – نقلاً عن بيانه 1948 يجب ألا يقل هدفنا في مجمله عن اتحاد أوروبا – لقي مقاومة من كبار السياسيين البريطانيين المشككين في الاتحاد الأوروبي، ومنهم نايجل فاراج القيادي في حزب استقلال المملكة المتحدة، حتى أنه اتهم باروسو بخطف عبارة واحدة قالها تشرشل، لإخراجها من السياق بحيث يتم تصويره على أنه من مناصري اتحاد سياسي في أوروبا. كما أنه في خضم الحملة الانتخابية في 2010، أشار زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي نيك كليغ إلى أن صعود حزب الاستقلال والجناح المتشكك في الاتحاد الأوروبي من حزب المحافظين يمكن أن يكون أفضل وأوضح رد فعل على فقدان الإمبراطورية. بينما بالنسبة للقارة الأوروبية كان إنشاء الاتحاد الأوروبي «انتصاراً مطلقاً للسلام على الحرب، وللديمقراطية على الطغيان»، وبالنسبة لبريطانيا كان «إقراراً بالضعف». وأشار نيك كليغ إلى أن العداء البريطاني المستمر لمشروع الاتحاد الأوروبي، ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالحنين البريطاني لزمن الإمبراطورية. ولم يكن هذا الرأي لزعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي وحده. فقبل ثلاث سنوات، أعلن ستيوارت هول – رئيس التحرير المؤسس لمجلة «اليسار الجديد»، والمنظر الثقافي البريطاني البارز – أن «فكرة» عظمة «بريطانيا العظمى» ذاتها مرتبطة مع الإمبراطورية.
ويعلق الكاتب: «يمكن أن تبقى قضية الشكوكية الأوروبية والقومية الإنجليزية الضيقة المناصرة لإنجلترا والمعادية للإمبراطورية البريطانية على قيد الحياة، إذا فهم الناس لمن السكر الذي يجري في دمائهم الإنجليزية وسوّس أسنانهم».
ويضيف: «تلك الشكوكية الأوروبية كانت منغمسة في مفاهيم العرق والإمبريالية، وكانت من البديهيات لكل من نيك كليغ وستيوارت هول. بعض المشككين الشعبيين في أوروبا شجعوا مثل هذه الانتقادات من اليسار. على سبيل المثال، دانيال هنان، عضو المحافظين في البرلمان الأوروبي عن جنوب شرقي إنجلترا، وكثيراً ما يتخلل كلامه التعليق على أخطاء الاتحاد الأوروبي مع الثناء على الإمبراطورية. وفي الوقت نفسه، المدافعون المعروفون عن الإمبراطورية البريطانية مثل المؤرخين نيال فيرغسون وأندرو روبرتس اللذين كتبا على نطاق واسع عن معارضتهما للتلاحم البريطاني الأعمق مع القارة الأوروبية، إذ يدينان الاتحاد الأوروبي بأنه غير ديمقراطي، وغير مسؤول. حتى أن الصحفي البريطاني والتر باجيت لاحظ الارتباط بين الشكوكية الأوروبية المعاصرة والحنين إلى الزمن الإمبراطوري. بالنسبة للطبقة السياسية والسلطة الرابعة، فمن الشائع أن صعود الشكوكية الأوروبية قد سار جنباً إلى جنب مع انهيار الإمبراطورية البريطانية.
علاقة ضعف أم قوة؟
يحاول المؤلف أن يروي في عمله هذا قصة علاقة بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية مع القارة الأوروبية، حيث يبقي على السياق الأوسع للشؤون الخارجية البريطانية ومكانة بريطانيا في العالم بقوة في المشهد العام. ويشير إلى أن علاقة بريطانيا مع القارة الأوروبية تشكلت بشكل وثيق من خلال تعامل حكومة نهاية الإمبراطورية، من خلال تصورات الجمهور المتغيرة لمكانة بريطانيا في العالم، ومن خلال بحث الدولة عن تحديد ما يعنيه أن تكون بريطانياً أوروبية في أعقاب كل من الحرب والإمبراطورية. ويقترح أنه في عالم ما بعد الحرب مباشرة، السياسيون البريطانيون وموظفو الخدمة المدنية والجمهور على العموم رأوا الهوية البريطانية بأنها أوروبية وإمبراطورية على حد سواء. لم يكن هناك أي تناقض بين أن تكون قوة إمبريالية، أي باعتبارها جزءاً من العالم الأطلسي الناطق بالإنجليزية ودولة أوروبية في الوقت نفسه. شكلت هذه الهوية نهجاً لسياستها المحلية والدولية، وإدارتها نهاية الإمبراطورية وارتباطها مع القارة الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، من منتصف خمسينات القرن الماضي إلى السبعينات، هذه الهوية والنظرة العالمية التي ألهمت الآخرين شهدت تحدياً من انحدار الإمبراطورية وإنهاء الاستعمار بشكل نهائي، ومن إنشاء المجموعة الاقتصادية الأوروبية على أساس فهم أوروبا أن معظم البريطانيين بشكل عام لم يشاركوها، ومن حرب باردة جعلت المملكة المتحدة أقرب من أي وقت مضى إلى الولايات المتحدة. وهذه التحديات توضحت من خلال تغيير في القارة الأوروبية نفسها، مع التحول إلى الهوية الأوروبية التي لم تعد تستند على الإمبريالية / الاستعمار، وكانت شكوكية بشكل متزايد حيال نظرة عالمية أطلسية. وما يزيد الأمور تعقيداً، أن ذهبت هذه الفكرة من أوروبا عبر العديد من التكرارات من 1940 إلى 1960 – كلاهما داخل المملكة المتحدة والقارة – ضامنة أنه لم تكن فقط النظم العقائدية الأساسية من البريطانيين في حالة تغير مستمر خلال هذه السنوات، إلا أن مفهوم أوروبا نفسه كان يتغير باستمرار ويتطور.
«العظمة» في خدمة الحرب
يلخص الكاتب أبرز الأحداث والروايات والآراء حول البقاء في الاتحاد الأوروبي والخروج منه، وكيفية تعامل فئة من السياسيين مع مسألة الاتحاد مع القارة الأوروبية، ويقول: «في نهاية الحرب العالمية الثانية، اعتقد الكثير من البريطانيين أن مسؤولية المملكة المتحدة كانت قيادة ليس فقط الإمبراطورية البريطانية والكومنولث، بل أوروبا أيضاً. من خلال القيام بذلك (وعن طريق الحفاظ على «العلاقة الخاصة» مع الولايات المتحدة على حالها)، يمكن أن تتحرك بريطانيا نحو مفهوم المجتمع والحوكمة العالمية ما بعد الحرب، مع ضرورة أن تمسك بريطانيا بحزم بمقاليد الأمور. بالنسبة للبريطانيين في هذه السنوات، لم يكن التلاحم الأكبر مع القارة الأوروبية بديلاً عن الإمبراطورية، بل فرصة لتمديد مهمتها الإمبراطورية جنباً إلى جنب، فضلاً عن تعزيز العلاقات مع دول الكومنولث. بعد سبعين عاماً، غابت الإمبراطورية فترة طويلة، وفقدت الكومنولث أهميتها السياسية، وسمعة المملكة المتحدة في أوروبا أصبحت إلى حد كبير بمثابة الفرامل الأطلسية على الطموحات الأوروبية».
ويقول في خاتمة عمله: «هذا التراث من العظمة» تطور في أذهان البريطانيين، إلى درجة أنه أصبح شعوراً قومياً أصر على فصل بلادهم عن الآخرين في القارة الأوروبية، وهذه الصيغة من التفكير لم تمنعهم من الإبحار 8 آلاف ميل عبر جنوب المحيط الأطلسي لاستعادة قاعدة استعمارية صخرية من الأرجنتين. لقد كان نمطاً راسخاً من السلوك ساهم فيما بعد في تشجيع السياسيين البريطانيين أن يروا أنهم من واجبهم ومن مسؤولياتهم أن يدخلوا في حروب أبعد ليؤكدوا حضورهم العالمي.
وينتقد توني بلير رئيس الوزراء الأسبق الذي حض على الحرب في العراق، وذلك من خلال مقاطع من سيرته الذاتية، حيث يشجع على الحرب من خلال تأكيد عظمة البريطانيين وقيمهم الراسخة في التمدد إلى كل أصقاع العالم، موحياً أن هذا الكلام يرتبط ارتباطاً وثيقاً من جهة باللوبيات التي دعمت الحرب على العراق وخلفت الكوارث فيه، لإقناع الرأي لعام بضرورة الحرب وأهميتها في أمنهم القومي، رغم عدم شرعيتها، وهو ما أكدته التقارير الأخيرة، وأبرزها «تشيكلوت» من أن بلير شجع على الحرب من دون أن تكون بريطانيا مجبرة على الدخول فيها، وأن تأخذ جنودها إلى مستنقع الموت في الشرق الأوسط.