قضايا ودراسات

«براغماتية» حماس.. إلى أين؟

عوني صادق
عندما تم الإعلان عن انتخاب إسماعيل هنية رئيساً للمكتب السياسي لحركة (حماس) خلفاً لخالد مشعل، وصفه بعض المراقبين بأنه يمثل «الجناح الأكثر براغماتية للحركة». ثم جاءت «وثيقة حماس الجديدة»، فقيل إن الحركة أرادت أن تكون «عملية»، و«مرنة»، في مواقفها لمواجهة العزلة والظروف الجديدة التي تعيش الحركة في ظلها. وأخيراً جاء «التقارب» مع محمد دحلان، وتم تسريب ما سمي «وثيقة بناء الثقة» التي تضاربت الأخبار حولها، حيث نفاها ناطق باسم الحركة، وقال ناطق باسم دحلان إنها «غير صحيحة ومزورة». وإذا كان البعض يفضل أن يترجم مفهوم «البراغماتية» ب«العملانية» على أساس أن «النتائج العملية» هي التي تحدد صدقية النظرية، فإن هناك من يعتبر «النفعية»، أو «الذرائعية» تلخيصاً أقرب للمفهوم، وهو الذي أميل إليه عند الحديث عن سلوك (حماس) السياسي في هذه الأيام.
لكن التدقيق يظهر أن «البراغماتية» ليست جديدة على حركة (حماس)، ولم تبدأ مع وصول إسماعيل هنية إلى رئاسة المكتب السياسي للحركة. فمنذ أن قررت الحركة خوض الانتخابات التشريعية في العام 2006، أصبح واضحاً أن «البراغماتية» ليست غريبة على سلوكها السياسي. فالمعروف أن (حماس) ظهرت إلى الوجود في غمرة الانتفاضة الأولى (1978)، وأنها جاءت كحركة مقاومة مسلحة. والفوز الكبير الذي تحقق لها في الانتخابات التشريعية إنما جاء على هذه الخلفية، وبعد أن اتضح أن حركة (فتح) لم تعد لها علاقة حقيقية بالمقاومة المسلحة بعد (اتفاق أوسلو). وعندما شكل إسماعيل هنية أول (حكومة وطنية موحدة) اعتبرها البعض شريكة في (اتفاق أوسلو)، وتأكد الأسلوب «البراغماتي» في عملها السياسي، حيث رفضت حركة (الجهاد الإسلامي) في حينه المشاركة في الانتخابات التشريعية والحكومة معاً.
ومنذ عزل الرئيس المصري السابق محمد مرسي، وبعد ثلاثة حروب شنها الجيش «الإسرائيلي» على القطاع (2008، 2012، 2014)، تعرضت (حماس) لضغوط شديدة، ولظروف زادت من صعوبة الحياة في القطاع المحاصر. ومع فشل محاولات (المصالحة)، تأكد للجميع أن الصراع الدائر على (سلطة تحت الاحتلال) بين حركتي (حماس وفتح) لن ينتهي، بل إن توالي الأيام كان يؤكد أن كلتا الحركتين متمسكة بغنيمتها. وكان لاشتداد الضغوط على (حماس) وتمسكها بحصتها من السلطة في غزة، دور كبير في التطورات الأخيرة التي طرأت عليها، حيث اتضح أنه صار عليها أن تعيد حساباتها مجدداً، وتغير قليلاً، أو كثيراً من سلوكها السياسي، بل وتتجاوز بعض «ثوابتها الوطنية»، على أمل أن تتمكن من تجاوز «عنق الزجاجة» الذي حشرت فيه.
وأثناء الحرب الأخيرة (2014) التي شنها الجيش «الإسرائيلي» على القطاع، كان المطلب الرئيسي لحكومة بنيامين نتنياهو لوقف الحرب يتلخص في إسقاط البندقية المقاومة. وبعد الحرب، وعدم تحقيق أي من مطالب (حماس)، باستثناء وقف إطلاق النار الذي تمت المفاوضات بشأنه تحت رعاية مصرية، وسعت الحركة الحديث عن «مواقف» كانت قد أطلقتها في إشارات سابقة قبل ذلك، منها (الهدنة الطويلة) التي تتراوح بين 10-15 سنة، وقبول (دولة فلسطينية في حدود حزيران 1967)، مع عدم الاعتراف ب«دولة «إسرائيل»». أما الجديد الآن فهو ما يتعلق بالمتضارب من التصريحات حول النتائج السياسية التي أسفر عنها اللقاء مع دحلان.
عشر سنوات انقضت على أول انعطافة «براغماتية» أقدمت عليها حماس (المشاركة في الانتخابات التشريعية وتشكيل الحكومة)، ثم عندما سيطرت على القطاع تحولت فيها الحركة إلى (فتح أخرى)، سواء من حيث السعي إلى السلطة والتمسك بها والصراع في سبيلها، أو من حيث «الانخراط العملي» في واقع أوسلو ومخرجاته السياسية والاقتصادية، ما أدى إلى نتيجتين رئيسيتين: فقدان (حماس) لمميزاتها الفارقة عن (فتح)، وتراجع موقع المقاومة المسلحة في الصورة الفلسطينية العامة، وبالتالي تراجع القضية الفلسطينية، وما يسمى «المشروع الوطني الفلسطيني»، ثم فقدان الشعب ثقته بأسلوبي العمل السياسي الفلسطيني: أسلوب المفاوضات، والأسلوب الذي لا يزال يتمسك لفظياً بالمقاومة المسلحة. وفي الظروف الفلسطينية المزرية والعربية السريالية، ومع دخول دونالد ترامب البيت الأبيض، وجدت القيادة «الإسرائيلية» الأكثر تطرفاً فرصتها لتفرض شروطها، ليس على شكل ومضمون «التسويات» المطروحة فقط، بل وعلى مجرد استئناف المفاوضات.
في هذا الخضم يصبح «التفكير البراغماتي» رسماً بيانياً هابطاً لأي طرف فلسطيني يتعامل مع المطروح لحل «الصراع العربي- الإسرائيلي» والقضية الفلسطينية. ولن يكون غريباً أن تكون «التسوية الإقليمية» التي يدعو إليها كل من نتنياهو وترامب اسماً آخر لتصفية العنوانين معاً. ومن الطبيعي أنه ما دام كل شيء يتم طرحه للتفاوض يجب أن تقبله وتوافق عليه «إسرائيل» ويتماشى مع مخططاتها، فإن «التفكير البراغماتي» لن ينقذ شيئاً، أو أحداً.

awni.sadiq@hotmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى