قضايا ودراسات

بعيداً عن شواطئ البداية

توجد حقيقة مطلقة في مكانٍ ما، ويمكن للإنسان أن يبلغ هذه الحقيقة، ولكن هذا لا يتم إلا بجد وجهد ودأب. فمعارفنا، مهما اتسعت وتنوعت وتعمّقت، تظل نسبية بالقياس إلى ذلك المطلق الكبير، وهي قد تكون صحيحة، أو لعلها صحيحة بالفعل، لكن فقط بالقياس لما تيسر لنا من معطيات سمحت بتشكيل قناعاتنا أو معلوماتنا، حول ظاهرة من الظواهر أو مسألة من المسائل.
المشتغلون في البحث العلمي يلاحظون ذلك، ففي غمرة انشغالهم على دراسة موضوع من الموضوعات، يلاحظون إلى أي مقدار تتوسع معلوماتهم، وربما تتبدل قناعاتهم أثناء البحث، لأنهم يطلعون، أو يجب أن يطلعوا، على أكثر ما يمكن من المصادر ذات الصلة بالموضوع الذي يبحثون فيه، وهي مصادرمتعددة، إذا تحدثنا عن العدد، وهي أيضاً متنوعة، إذا تحدثنا عن المشارب الفكرية والثقافية لمن وضعوا هذه المصادر.
وفي الكثير من الحالات فإن الباحث يبدأ عمله، وفي ذهنه تصوّر أولي للخلاصة التي سينجم عنها بحثه، كأنه يضع فرضية مسبقة تكون بمثابة الخلاصة، وهو يريد، عبر البحث، اختبار صحة هذه الفرضية، وقد يكون له ما أراد، حين تؤكد المصادر التي اطلع عليها ذلك، وقد يحدث، في الكثير من الحالات، أن البحث يفتح له أبواباً ومسالك جديدة، تقلب قناعاته عاليها سافلها، حين يصل إلى معلومات أو معطيات، تجعل مما كان يعتقده مجرد أوهام.
كثير من الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ، مددوا المهل الزمنية التي كانوا قد ظنوا أنها كافية لإنجاز أبحاثهم، حين وجدوا أنفسهم يسبحون في بحار جديدة من المعرفة، جرفتهم بعيداً عن الشواطئ التي انطلقوا منها، وهناك فلاسفة أدركهم الموت، وهم مازالوا يبحثون فيما بدؤوا فيه، وقام من بعدهم، من أصدقاء، بنشر أبحاثهم غير المكتملة، دون أن يعني ذلك أن تلك الأبحاث، على عمقها وغناها، هي بمثابة «القناعات» النهائية لواضعيها الراحلين.
يطرح هذا سؤالاً دقيقاً عما إذا كانت المعرفة هي هكذا تجريبية إلى ما لا نهاية، مع ما ينجم عن ذلك من حال دائمة من عدم اليقين، أو في كلمات أخرى حال من عدم المعرفة، وهي حال لن تمكّن البشر من أن يضعوا أقدامهم على أرض صلبة أبداً؟
ثمة مخرج يقترحه الباحثون لذلك، هو المزاوجة بين التجريبي والمفاهيمي، بمعنى امتلاك منهج البحث، أوعدة المفاهيم اللازمة للبحث عن الحقيقة، وهي مفاهيم لديها القابلية لأن تكون على درجة كافية من الثبات يمكن الاعتداد بها، وهي نفسها تتحول إلى منهج تقصي المعرفة الموصلة إلى حقائق قد تكون نسبية، ولكنها صحيحة حتى لحظة اكتشاف ما ينفيها أو يثبت عدم صحتها.

د. حسن مدن
dr.h.madan@hotmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى