بكبسة «واتس آب» سقط اللسان والحصان

د. نسيم الخوري
ترك فيديو مسرَّب لوزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، يتناول فيه رئيس مجلس النواب نبيه بري بنعوتٍ وأوصاف قاسية، الكثير من الأنقاض والحرائق المتنقلة في شوارع لبنان وعاصمته ومدنه وقراه وساحاته كما في أمزجة اللبنانيين السياسية والمخاوف الأمنية. لن أكرّر تلك الأوصاف مستذكراً رأي روي طومسون (1894-1976) إمبراطور الصحافة البريطانية؛ إذ كان ينصح الصحفيين بعدم تكرار الهفوات وزلّات اللسان والأخطاء، وذكرها عند نشر الاعتذار أو التصحيح أو التصويب وإلًا فإنّ الخطأ ينتشر كما النار في الهشيم، وكأننا بذلك ننادي من فاتهم الخبر أو الخطأ إلى التجمّع مجدداً؛ لمعرفة ما حصل؛ لكن… تغيّر العصر اليوم إلى درجة هجرة الأخلاق الإعلامية والمسؤوليات من الأحرام الجامعية والوسائل الإعلامية.
صحيح أنّه «في البدء كان الكلمة…» وأنّ الكلمة كانت وستبقى مقصلة في علاقات الأفراد والدول؛ لأنّها ما زالت تجرح وتورّث الكلوم والندوب، وما أكثر نماذجها المعاصرة من حولنا، وصحيح أنّ الكلمة خرجت أساساً من رحم الكَلِم بفتح الكاف وكسر اللام؛ وهي تعني الجرح وتجعلنا نتلقّف وقع المنطوق خارجاً من الشفتين المشقوقتين كما الجرح في صفحة الوجه سكيناً يحمل القذاعة والعداوة والانقسامات والفتن والحروب وليس باباً للكلام الذي يحمل التعبير والمؤانسة ويصقل اللغة ويبعثها أو يحمل الفكر والإقناع أو الغبار ما يعتمل في النفس من قهرٍ كما قال جبران خليل جبران؛ لكنّ الجديد والأصحّ، أنّ كلمة «تسريب»؛ لأنّها رسبت ولا قيمة لها بعد في هذا العصر «الويكيليكسي» الذي ينزع الحجب عن كلّ ما يُقال في السرّ والخفاء، ويفضح المقال وحتّى اللامقال ويرفع الأغطية عن كلّ ما يهمس به اللسان صائناً أو خائناً لصاحبه. يستحسن حذف تسريب القواميس والأذهان في العصر. كان في القاعة فتاة التقطت بالجوّال أو السلطة المعاصرة الخفيّة ما أباح به الوزير باسيل وعبر «الواتس آب» عمّمته بكبسة بسيطة ليسقط اللسان والحصان ولبنان في ميدان المحارق.
ما حصل ويحصل وسيحصل لم يكن مفاجئاً. هذا يستدعي الحكمة العربيّة القائلة إنّه «القشّة التي قصمت ظهر البعير» أو أنّه مشابه لجناحي فراشةٍ طارت في إفريقيا فأخلّت بالتوازن فاسحة في المجال لهزّةٍ أرضية كما يشرح لنا علم البيولوجيا. سبق قرع جرس الإنذار في هذه الصفحة بالذات من صحيفة الخليج الغرّاء (2017/1/20) بعنوان«خوفاً من فكّ اللحام»، على اعتبار أنّ الدستور اللبناني ليس «دستور إيمان» وهو ليس من روح القرآن، ويحرّم علينا حلّ مآزمنا بالحوار والتقارب والتعديل والتغيير.
تتجاوز مسألة صراع السلطات إجراء الانتخابات البرلمانية أو تأجيلها إلى مستوى تمزيق الأوراق والتحالفات الكثيرة الموحى بها من الخارج، التي أدخلت اللبنانيين، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، في دوائر 8 و14 آذار الصغيرة، التي تتحوّل بدورها اليوم أنقاضاً يحلم الحزبيون بالتحرر منها. يمرّ لبنان بمرحلة انتقالية عالية في مخاطرها؛ لأنّ ذلك الدستور نصّ على فصل السلطات وتوازنها وتعاونها، ولم يتمكن أحد أن يشرح عملياً أو يحقق مقولة مونتسكيو في لبنان عن كيفية التوفيق بين الفصل والتعاون والتوازن. كان يمكن تجاوزه بـ«العصا» السورية أو غيرها من الدول، ولكنّ السباحة في المستنقعات الطائفية تجعل فكر مونتسكيو مستورداً ومستحيلاً على التطبيق في بلادٍ محكومة بالاستيراد.
يتراجع لبنان، إذاً، وتتراكم الانقسامات ويشعر المواطنون وكأنّهم يدفعون مجدداً إلى التجمّع فوق حافتي الانفجارات والحروب التي لطالما هزّت جذورهم وراكمت شهداءهم صوراً مملوءة بها جدران مدنهم، ومعاقين ومشوّهين يدمنون مستشفياتهم وعائلات وأبناء وبنات يهاجرون إلى منافي الأرض.
وعلى الرغم من أنّ اللبنانيين اعتقدوا بأنّ رئيس الجمهورية ميشال عون قد انتزع الفتيل المشتعل بدعوته إلى التسامح؛ لأنّ ما حصل هو خطأ بُنيّ على خطأ، فإنّ حركة «أمل» باستخدامها المستمر للتجمعات وحرق الإطارات في الشوارع والساحات تدعو جبران باسيل إلى الاعتذار العلني وحتى الاستقالة من الحكومة؛ الأمر الذي يعقّد احتواء التداعيات والتصدّعات المنتظرة. وجاء بيان «تكتّل التغيير والإصلاح» الذي يرأسه جبران باسيل، يجدّد المواجهة كتوجه استراتيجي في رسم مستقبل لبنان الجديد لا حياد عنه. نحن نعجز عن توصيف الحقد المتبادل وتأجيج الصراعات الذي تشتعل به مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان بدلاً من التخفيف والتلطيف؛ استدعاءً للسلم الأهلي والهدوء والتعقل. كتب أستاذ جامعي في صفحته على «الفيسبوك»:«إنها مناسبة لنتعلم أن التعايش الطائفي كذبة وأن المواطنة وحدها هي الصالحة للانتماء الوطني».
Drnassim@hotmail.com