«بلفور» و«صفقة القرن»
يونس السيد
بين وعد بلفور المشؤوم في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917 الذي أهدى اليهود «وطناً قومياً» في فلسطين، و«صفقة القرن» المعروضة للتداول، نحو قرن من الزمان، جرت خلاله تقلبات عاتية وحروب كثيرة و«ثورات» متعددة، سالت فيها أنهار من الدماء، وشهدت اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها إلى شتى بقاع الأرض، فهل يستسلم هذا الشعب لطوفان الصفقات والتسويات الهادفة إلى سرقة حقوقه المشروعة في أرضه ووطنه وتصفية قضيته الوطنية تصفية نهائية؟
لسنا بصدد العودة إلى الوراء، ولكن ما يجري حالياً ربما يكون أخطر بكثير من «وعد بلفور»، ذلك أن هذا الوعد المشؤوم الذي أتاح إنشاء «إسرائيل» في عام 1948 بحماية الاستعمار البريطاني، ظل فاقداً للشرعية التاريخية والقانونية والأخلاقية، بينما تذهب «صفقة القرن» إلى الالتفاف على التاريخ والقانون الدولي والمبادئ الأخلاقية بإجبار الفلسطينيين على التخلي عن أرضهم ووطنهم وحقوقهم تحت الضغط والتهديد المستند إلى القوة الغاشمة التي تملكها «إسرائيل» وحليفتها الإدارة الأمريكية.
«صفقة القرن» تختزل القضية الفلسطينية إلى 40 ألف لاجئ من أصل أكثر من خمسة ملايين ونصف المليون لاجئ يعيشون في المخيمات ولا شيء آخر، وحتى هؤلاء اللاجئين يمكن إلحاقهم بمفوضية اللاجئين الأممية أسوة بغيرهم من لاجئي العالم الذين يذهبون إلى الغرب بحثاً عن عمل لتحسين ظروف حياتهم أو هرباً من حكوماتهم، أي لا قضية لهم ولا وطن، والقدس في «صفقة القرن» عاصمة ل «إسرائيل»، أما حيفا ويافا وعكا واللد والرملة وحتى بيت لحم والخليل ونابلس وجنين فهي جزء من «أرض إسرائيل التاريخية» فما الذي تبقى سوى موافقة الفلسطينيين أنفسهم على ذلك طوعاً أو كرهاً حتى يستطيع أن يهنئ «الإسرائيليون» على هذه الأرض؟ لكن «إسرائيل» تدرك قبل غيرها، ومعها معظم دول العالم ربما باستثناء واشنطن، حقيقة الموقف الفلسطيني الرافض ل «صفقة القرن» وكل التسويات المذلة من هذا النوع، فالفلسطيني الذي خبر المقاومة على مدار أكثر من قرن، وقدم مئات آلاف الضحايا من الشهداء والجرحى والأسرى والمعاقين، مستعد لمواصلة المقاومة حتى استعادة حقوقه في أرضه ووطنه وانتزاع حريته واستقلاله، ذلك أن المسألة أصبحت بالنسبة له «إما أن نكون أو لا نكون»، وحتى قيادته الراهنة، على هشاشتها وضعفها، لا تستطيع التخلي عن هذه الحقوق باعتبارها «خطاً أحمر».
حسناً فعلت هذه القيادة في اجتماعها الأخير عندما جددت رفضها ل «صفقة القرن» وقررت تعليق الاعتراف ب «إسرائيل» ولو إلى حين اعترافها ب «دولة فلسطين» ووقف كل أشكال التنسيق الأمني معها والعمل على الانفكاك الاقتصادي مع سلطة الاحتلال، رغم أنها كلها قرارات متخذة قبل دورتين للمجلس المركزي الفلسطيني وجرت إعادة إحيائها، فهل ستبقى أبواب المقاومة المشروعة مشرعة ضد الاحتلال، أم أن العبرة، في النهاية، تبقى في النفوس وليس في النصوص؟
younis898@yahoo.com