بوابات الجحيم: ما قد يحدث
عبد الله السناوي
لم تكن تلك المرة الأولى، التي تستخدم فيها عبارة «بوابات الجحيم»، على نطاق واسع؛ تحذيراً من عواقب لا سبيل إلى تجنب أهوال نيرانها.
قبل الاحتلال الأمريكي للعراق عام (2003) استخدمت العبارة نفسها دون أن يكون في طاقة أحد توقع المدى، الذي يمكن أن تذهب إليه التداعيات تخريباً وقتلاً وتشريداً لعشرات الملايين في دول عربية عديدة. كما لم يكن أحد في مراكز صناعة قرار الحرب مستعداً أن ينصت لأي تحذير، فقد اتخذ وانتهى الأمر.
كان استهداف العراق- بذاته- مقصوداً؛ لإضعاف العالم العربي بإخراج ثاني قوة فيه- بعد مصر- من أي معادلات وحسابات لمصلحة الدور «الإسرائيلي» وتمدده.
هذا ما جرى بالفعل، غير أن توحش ظاهرة الإرهاب إلى حدود غير متخيلة دفع بكتل النار إلى قلب العواصم الأوروبية، كما أفضت ظاهرة الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط، هروباً من الموت إلى أزمات مستحكمة في ذات العواصم.
بعد نحو خمسة عشر عاماً أقدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على خطوة مماثلة تنذر ببوابات جحيم جديدة في إقليم منهك وممزق؛ لكنه يجد نفسه أمام تحدٍ ينال من عقائده وحقوقه وكرامته على نحو مفرط في إهانته.
القضية ليست أن تفتح أو لا تفتح بوابات الجحيم على خلفية الاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل» ونقل السفارة الأمريكية إليها.
لقد فتحت والتداعيات سوف تمتد لعشرات السنين- كما حدث بالضبط في أعقاب نكبة (1948)؛ حيث نال التغيير أفكاراً ونظماً في العالم العربي، ولم يبق شيء على حاله.
السؤال الأكثر جوهرية: بأي اتجاه تفتح بوابات الجحيم هذه المرة؟ أو من يدفع الثمن باهظاً: العرب كالعادة بأوضاعهم الهشة أم الولايات المتحدة و«إسرائيل» بحماقات القوة؟
الإجابة مفتوحة على سيناريوهات متناقضة. في المشهد الدولي إدانات متواترة للخطوة الأمريكية حتى بدت في عزلة دبلوماسية كاملة، لا دولة واحدة مستعدة أن تتفهمها، أو تسايرها، فالعواقب- وفق بيان للاتحاد الأوروبي- تنذر بـ«عودة المنطقة إلى أوقات مظلمة».
التعبير الأوروبي يستلهم التحذير الشائع عن بوابات الجحيم.
إذا تقاعس العرب عن الوفاء بواجب الغضب فإن موجة الاستهجان الدولي قد تنكسر سريعاً، فلا أحد يحارب معارك الآخرين بالنيابة.
وإذا لم تكن هناك إجراءات فلسطينية وعربية وإسلامية لها قوة النفاذ فإن عبارات الإدانة والشجب سوف يتبخر أثرها، كأنها دخان بلا نار.
لماذا الاعتراف الأمريكي الآن بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل»، بعد أكثر من ربع قرن على القرار الذي اتخذه الكونجرس بنقل السفارة الأمريكية إليها؟
هناك سببان رئيسيان لجرأة الاستهانة.
الأول- هشاشة الوضع العام بالعالم العربي، كأنه ضرب على الحديد وهو ساخن، دون توقع ردات فعل سلبية على المصالح الأمريكية، التي اتخذ «ترامب» باسمها قراره.
والثاني- أزمة الرئيس الأمريكي الداخلية تحت وطأة التحقيقات، التي تحاصر كبار معاونيه في التدخل الروسي بالانتخابات الأمريكية، مخاطباً جمهوره اليميني المؤيد لـ«إسرائيل» بأنه قوي بما يكفي لاتخاذ هذه الخطوة بغض النظر عن ردات الفعل العربية والإسلامية والدولية على عكس الرؤساء السابقين.
الكلام كثير في العالم العربي عن الأثر السلبي لقرار «ترامب» على فرص التسوية السياسية، وأنه أنهى عملياً أي دور للراعي الأمريكي. الفرضية صحيحة بإطارها العام؛ لكنها تحتاج إلى ما يؤكدها في السياسات والتصرفات والتساؤلات الحرجة تداهم السياسات الخاملة.
إلى أي حد يمكن الرهان على قلب المائدة بإلغاء معاهدة «أوسلو» وحل السلطة الفلسطينية حتى يمكن عرض القضية أمام العالم على وجه صحيح: دولة احتلال وشعب يقاوم دون أي غلالات تتحدث عن عملية سلام أجهضت تماماً بإعلان الإدارة الأمريكية القدس عاصمة ل«إسرائيل»؟
وإلى أي حد يمكن للمصالحة الفلسطينية بين حركتي «فتح» و»حماس» أن تمضي للأمام دون أوهام التعلق بتسوية وفق حل الدولتين؟
وضع القدس من ضمن قضايا الحل النهائي، وهي عقدته الكبرى.
إذا كان الراعي الأمريكي قد حسم موقفه باستهتار بالغ بأي مواثيق وقرارات دولية، فما موضوع التفاوض؟
ما طبيعة أي مقايضة مفترضة، فلا أرض مقابل سلام، ولا عودة للاجئين، ولا تفكيك للمستوطنات، ولا دولة تتصل أراضيها، ولا سيادة محتملة؟
لا شيء يحصده الفلسطينيون مقابل كل شيء للـ«إسرائيليين»؛ ذلك صلب ما يطلق عليها «صفقة القرن».
هناك من يراهن- أولاً- على خطوات أخرى في «صفقة القرن» تتلو التحديد الأمريكي المسبق لوضع القدس، حتى يكون كل ما هو مطروح تحت عنوان «الدولة الفلسطينية» بقايا الضفة الغربية، بعد ضم المستوطنات، وغزة التي لا تقع تحت سيطرة قوات الاحتلال، والسعي لضم أجزاء من شمال سيناء إلى تلك الدولة على حساب مصر وأمنها القومي مقابل تبادل أراض- وهذه مسألة مستحيلة دونها زلازل وبراكين وحروب.
أرجو الالتفات- بكل جدية- إلى تصريح الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» من أن «دواعش الرقة» أرسلوا إلى سيناء دون أن يوضح من أرسلهم، ولماذا سيناء بالذات؟
هل ذلك الإرسال- على الأغلب من الولايات المتحدة- نوع من التمهيد لانتزاع شمال سيناء من الجسد المصري وفق صفقة القرن؟
الخطر حقيقي لا افتراضي والتنبه لا بد أن يكون حازماً.
وهناك من يراهن- ثانياً- على أن فورة الغضب العربية سوف تخفت بالوقت، وأن دولاً أخرى بالعالم مرشحة لاتخاذ الخطوة نفسها تحت سطوة الأمر الواقع على ما قال رئيس الوزراء «الإسرائيلي» «بنيامين نتنياهو» تسليماً بحقائق القوة المفرطة لا اعتبارات القانون الدولي.
الرهانات كلها على المحك.
لا الإدانات الدولية تكفي لإثبات مدى الضرر الذي قد يلحق بالإدارة الأمريكية ، ولا البيانات الإنشائية دون إجراءات ترقى لمستوى خطورة الموقف تصلح لتأسيس موقف يلهم الرأي العربي العام بتماسك حقيقي، أو إقناع بجدية.
الأفكار المتداولة في الكلام العام تقترح تجميد العلاقات مع الولايات المتحدة على المستويات كافة، غير أنها فوق طاقة النظام العربي الحالي المتدهور بقسوة.
هناك ما يمكن فعله غير بيانات الشجب والإدانة، مثل عدم استقبال نائب الرئيس الأمريكي مبعوثاً من «ترامب» إلى دول الشرق الأوسط الرئيسية، أو استدعاء السفراء الأمريكيين لإبداء الاحتجاج.
الممكن رسمياً محدود والتوجه المحتمل- في ظل الأوضاع الحالية- توقي غضب الرأي العام ببيانات إبراء الذمة.
والممكن شعبياً مفتوح نسبياً مثل تفعيل نداءات مقاطعة المنتجات الأمريكية، وقد شهدت مصر تجربة ناجحة إبان انتفاضة «محمد الدرة».
غير أن مستوى التفاعلات- بالعالمين العربي والإسلامي- يكاد يرتهن لما يجري داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، فهنا مفتاح الموقف كله.
إذا ما أخذت الانتفاضة الثالثة مداها فإن كل شيء سوف يأخذ مساراً مختلفاً، أكثر حسماً وجدية وردعاً للإدارة الأمريكية.
الأهم أن بوابات الجحيم لن تفتح- في هذه الحالة- باتجاه العالم العربي؛ بل على الجانب الآخر الذي استهتر بفحش بأي حق قانوني وسياسي وتاريخي وإنساني له في القدس.