بين السياسة والرياضة.. مسألة قواعد
عبدالله السناوي
كل ما يتصل بالمجال العام فهو شأن سياسي. هذه قاعدة لا تقبل الاستثناء. هناك فرق جوهري بين الشأن السياسي باتساع نظرته والتوظيف السياسي بضيق أفقه.
بمدى قدرة السياسة على إشباع احتياجات مواطنيها، تكتسب الدول مناعتها وقوتها وقدرتها على النهوض.. هذه مسألة تشمل بالضرورة كافة حقوق المواطنة، وبناء دولة المؤسسات وكفالة الحريات العامة وكفاية الخدمات الصحية والتعليمية، واستقلال الجامعات وحرية البحث العلمي والإبداع الفني والثقافي والحق في الرياضة.
لكل ميدان قواعده وأصوله الحديثة، فإذا غابت تضرب العشوائية البلد كله.. لم تكن مصادفة أن ينص الدستور المصري على أن «ممارسة الرياضة حق للجميع» في باب «الحقوق والحريات والواجبات العامة».
هكذا استقر النظر الإنساني إلى ممارسة الرياضة باعتبارها حقاً رئيسياً لكل مواطن. كما استقر في القوانين الرياضية الدولية، منع التسييس وإقحام الصراعات الحزبية فيها واستخدام منصاتها لدعايات عنصرية.
بقدر وضوح القواعد اكتسبت الألعاب الرياضية شعبيتها وسحرها.
فكل شيء يمضي وفق قوانين تُحترم، وقواعد تُلزم، وكل طرف يعرف حدود دوره وأصول المنافسة بما يضفي على المكسب شرعية استحقاقه.
من هذه الزاوية اكتسبت الرياضة قدرتها على التقريب بين الدول والشعوب والثقافات.. إنها لغة واحدة مفهومة وممتعة معاً.. من زاوية أخرى، فإنها تزكي روح التنافس بين الدول في اختبارات الجدارة، وفق الشعار الأولمبي: «الأسرع والأعلى والأقوى».
ما يجري أحياناً من مناكفات سياسية قبل الدورات الأولمبية، يعبر عن طبيعة النظرة إليها كمؤشر على أوزان الدول وقدراتها.
مَنْ الأسرع في معدلات النمو والتطور؟ مَنْ الأعلى بمقاييس جودة الحياة؟ ومَنْ الأقوى في القدرات العسكرية والاستراتيجية؟
نزع الرسائل السياسية عن المنافسات الرياضية وهم كامل.
في الحالتين، السياسية والرياضية، فإن كفاءة المنظومة أساس كل حساب. المنظومة السياسية مسألة مؤسسات ودولة قانون، وفصل بين السلطات، والتزام كل مؤسسة بأدوارها الدستورية لا تتعداها ولا تتغول على غيرها. إذا توافرت الاشتراطات، فإننا أمام دولة حديثة فرصها مفتوحة على المستقبل. والمنظومة الرياضية مسألة قواعد وقوانين تضبط التنافس وسلامة التصرفات.
في العصور الحديثة هناك سؤال يلح على الفكر العربي: لماذا تقدموا؟ ولماذا تأخرنا؟
تعددت الإجابات باختلاف المدارس والاجتهادات دون أن نتوقف بشيء من الجدية أمام حضور القواعد هناك وغيابها هنا، ضمانات التنافس هناك وغيابها هنا، روح العمل الجماعي هناك وغيابها هنا، تراكم الخبرات وتطويرها هناك، وغياب التراكم هنا، كأننا نقرأ كتاب التاريخ من جديد ولا نتعلم من التجارب السابقة.
بأية قراءة موضوعية لظاهرة لاعب المنتخب المصري محمد صلاح، الذي تألق في الدوري الإنجليزي واكتسب سمعة عالية كواحد من أفضل اللاعبين في العالم، فإنها تعود بالأساس إلى المنظومة الرياضية التي يعمل بمقتضى قواعدها وأصولها، وقدرته على الانضباط والإبداع وفقها. إذا غابت القواعد فلا منظومة رياضية، أو غير رياضية.
تحسين المجال العام من ضرورات بناء منظومات رياضية حديثة ومتقدمة، وقادرة على المنافسة وإثبات الجدارة، وعودة الجمهور إلى ملاعب كرة القدم مسألة لا غنى عنها حتى تعود الحياة إلى طبيعتها.
غياب الجمهور رسالة سلبية على مستويات الاستقرار، تؤثر بالسلب على حركة الاقتصاد وجذب السياحة، كما تضرب الرياضة كصناعة.
هذه مسألة سياسية مباشرة.
كما أن ذلك الغياب يحرم قطاعات واسعة من الرأي العام، من حق أصيل في المتنفسات الاجتماعية تضيق به الصدور.
ملاعب كرة القدم مثل الحدائق العامة ودور المسرح والسينما والمقاهي والمنتديات، تسمح بالتنفس الاجتماعي، فإذا أغلقت أو حُوصرت، يدخل المجتمع في أزمة عميقة حتى لو بدت مكتومة.
هناك فارق بين التنفيس والتنفس؛ الأول فعل إلهاء، والثاني ضرورة حياة.
وقد كان تطوراً سلبياً وخطيراً ما جرى في استاد القاهرة الدولي خلال مباراة بين فريقي الأهلي، ومونانا الجابوني، في دوري أبطال إفريقيا من أعمال شغب حُطمت خلالها مقاعد وكاميرات مراقبة، وأعقبتها حملة اعتقالات في صفوف «الألتراس» وتحقيقات أمام نيابة أمن الدولة.
وعلى إثر الحادث تأجلت أي عودة للجمهور بصورة واسعة وطبيعية إلى ملاعب كرة القدم، وأوقفت أية مباريات في استاد القاهرة الدولي برمزيته وموقعه في قلب العاصمة.
يكاد الغبار أن يعمي الأبصار عن الحقائق، فالجميع يُدين ما جرى، بمن فيهم «الألتراس»، وبعض الأصوات تطالب بالقمع المفرط واعتبار الجمهور دون تمييز عنصر هدم للاستقرار وتهديداً للدولة.
ذلك يعني أولاً: نوعاً من التجهيل بأسباب ما هو مكتوم ومنذر، وسط جمهور عريض وغاضب من مشجعي الأهلي؛ أكبر الأندية الرياضية المصرية وأكثرها شعبية، على خلفية صدامات سابقة مع الأمن لم تجد من يحتوي آثارها بالحوار لا الوعيد، حتى يستعيد العلاقة الطبيعية المفترضة بين جمهور يشجع وأمن يصون.
ويعني ثانياً: أن طاقة الغضب والإحباط ما زالت تتفاعل وتنذر بصدامات مقبلة، دون أن تجد من يتفهم دوافعها ويعمل على التئام جراحها التي نزفت بقسوة، في حوادث سابقة .
ويعني ثالثاً: أن احتمالات الصدام تظل ماثلة إلى أجل غير معلوم، طالما بقيت طاقة الغضب على حالها، أو استمدت من البيئة السلبية المحيطة مدداً إضافياً، بقدر ما تحتويه من تشوهات في العلاقة بين الأمن وشعبه.
ويعني رابعاً: غياب أية إدارة سياسية للملف الشائك، وبعض الاتهامات المرسلة ل«الألتراس» تمنع أي تواصل ممكن، خاصة أنهم أدانوا ما جرى في استاد القاهرة واعتذروا عنه.
تخريب المنشآت العامة جريمة لا يصح لأحد أن يدافع عنها، وتعميم الاتهام دون قرينة خطيئة لا يصح لأحد ارتكابها.
القواعد مسألة التحاق بالعصر وضوابط لا تحجب الحريات باسم الأمن، ولا تمنع حرية إبداء الرأي تحت سيف الترهيب. بلا قواعد حديثة، لن يصلح شيء في هذا البلد من المؤسسات النافذة إلى ملاعب كرة القدم.