بين كيسنجر.. والرئيس السادات
عبدالله بشارة
آخر مؤلفات البروفيسور كيسنجر كتاب يضم تحليلاً أكاديمياً لست شخصيات عالمية تولت قيادة بلدانها واختارها السياسي الأكاديمي كيسنجر زعامات فريدة، صاغت قناعاتها وإيمانها بسلوكها طريقاً غير عادي لعلاج أوضاعها المعقدة، بعضها تبنى مبادرات سابقة لعصرها.
بدأ هنري كيسنجر بدراسة السياسة التي تبناها كل من هذه الشخصيات كوصفة لحلول الأوضاع المعقدة التي تعيشها شعوب هذه الدول.
اختار كيسنجر الزعيم الأول «كونراد أديناور» الذي تولى السلطة في ألمانيا المقسمة التي قسمت إلى أربعة أجزاء يتحكم في كل جزء منها واحدة من الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، تولى أديناور عام 1949 قيادة ألمانيا المنهكة، وتبنى طريقين، أولهما الاعتماد على الموقف الأميركي في إعادة إعمار ألمانيا، والثاني الإعلان عن قيام جمهورية ألمانيا الغربية التي تتشكل من الأقاليم الألمانية الثلاثة، البريطانية والفرنسية والأميركية، وضم ألمانيا لحلف الناتو، وتشكيل جيش ألماني ليصبح القوة الضاربة للحلف، في مواجهة تهديدات الاتحاد السوفيتي الذي تبنى قيام دولة ألمانية انفصالية كعضو في حلف وارسو تحت قيادة الاتحاد السوفيتي.
كان أديناور رجل دولة عارفاً بمخاوف الحلفاء من استعادة ألمانيا قوتها، ولذلك صار يدفع لإقناع الحلفاء بأهمية وجود ألمانيا داخل حلف الناتو.
وقد كانت دبلوماسية أديناور تلتقي مع آراء كيسنجر الذي ترك ألمانيا النازية وعمره تسع سنوات.
والشخصية الثانية التي اختارها المؤلف كانت الرئيس الفرنسي «شارل ديجول» الذي وصفه كيسنجر بالمزعج الدائم للتحالف خلال الحرب العالمية الثانية، وأنه لم يكن يلتزم بالاتفاقيات التي يصل إليها الرئيس الأميركي روزفلت والزعيم البريطاني ونستون تشرشل، وكان الرئيس الأميركي يتحفظ كثيراً على مشاركة ديجول، بينما يتحمل الزعيم البريطاني تشرشل تقلبات ديجول المزعجة لأنه يتخوف من مصادرة أسلحة الجيش الفرنسي المستسلم من قبل الألمان.
وبعد انتصار الحلفاء عاد ديجول إلى فرنسا زعيماً منتصراً، تولى السلطة في باريس، لكنه لم يكن منسجماً مع ألاعيب السياسيين الفرنسيين الذين اعتادوا على المساومات بين الفرق، وترك العمل السياسي منعزلاً في قريته، ولم يعد لإنقاذ فرنسا من نتائج حرب تحرير الجزائر، وانقساماتها بين المتطرفين من المقيمين الفرنسيين في الجزائر وبين الحكومة الفرنسية التي فقدت السيطرة على الجيش الفرنسي في الجزائر، وأنقذها الرئيس ديجول باتفاقه مع الزعامة الجزائرية على استقلال الجزائر.
والشخصية الثالثة، كان الرئيس الأميركي «نيكسون»، وكان كيسنجر مستشاره للأمن ثم أصبح مستشاراً ووزيراً للخارجية، كان إعجاب الوزير كيسنجر بدبلوماسية الرئيس بارزاً في وصفه للشجاعة السياسية التي تبناها نيكسون في موضوعين: الاتفاق مع موسكو للحد من الأسلحة النووية، والثاني الانفتاح على الصين ونهاية الموقف الأميركي غير الواقعي من حكومة الصين.
كان كيسنجر هو المنفذ لتفاصيل المنظور الإستراتيجي للرئيس نيكسون.
وتأتي السيدة «مارغريت تاتشر» كأول امرأة تقود بريطانيا نحو اليمين الاقتصادي الذي سارت عليه رئيسة الوزراء مع تبني سياسة تؤمن بالقطاع الخاص وتحارب التأميم مع تصاعد النهج القومي الوطني.
يتحدث المؤلف كثيراً عن اللقاءات الخاصة التي جمعته مع السيدة تاتشر، ويبرز إيمانها بالدور الأميركي لمواجهة الاتحاد السوفيتي، لا سيما في الأسلحة النووية التي طلبتها رئيسة الوزراء من الولايات المتحدة لتستقر على الأراضي البريطانية.
يتحدث كيسنجر عن زعيم سنغافورة «لي كوان يو – Lee Kuan Yew» الصيني الأصل الذي بنى دولة سنغافورة، وحولها إلى مركز استثمارات عالمي ورفع دخل الفرد إلى ستين ألف دولار، ويستمر في قيادة تلك المدينة حتى عام 1990 بعد أن اطمأن على استمرار الحيوية الاقتصادية فيها.
ويصل إلى السادات حيث يكتب 73 صفحة من الكتاب عن إستراتيجية السادات وسماها إستراتيجية التعالي – Strategy of Transcendence، ويدخل في تفاصيل عن حياة السادات السياسية قبل الثورة وصلابته أمام الصعوبات، كما يسجل ملاحظته على أسلوب السادات في التفاوض، وجوهره البت السريع قبل أن تتجمع القوى المضادة لإفشال مخططاته، كما يشرح كيسنجر أن السادات لا يتوقف عند آراء المساعدين، ولا يتأثر إذا ما قرروا الاستقالة، وكأن هناك قوة غير مرئية تبعد عنه مخاوف الفشل، وأنه يفضل أن يبت في القرارات وحيداً، فلا يسمح لمساهمات يراها عقبات تعرقل مسيرته.
كما يتحدث كيسنجر عن مقدرة السادات في التعاطي مع السلبيات، ويشير إلى استمرار عمله مع الرئيس عبدالناصر من دون توقف ومن دون خلافات، بينما اختفى معظم رجال عبدالناصر بسبب اعتراضاتهم على إدارته لشؤون الدولة، وبقي السادات وحيداً عندما اختاره الرئيس عبدالناصر نائباً له عام 1969 قبل ذهابه إلى مؤتمر القمة العربي في المغرب.
تولى السادات السلطة عام 1970 واعياً لضيق الشعب المصري من استمرار الاحتلال وضرورة تحريك الوضع سياسياً أو عسكرياً مع إدراك لمحدودية الدور السوفيتي سياسياً وعسكرياً، مع مبادرة الاتصال بالولايات المتحدة التي بيدها الكثير من المفاتيح، ويذكر كيسنجر أن السادات أرسل ممثله الشخصي حافظ إسماعيل الذي التقى بالرئيس نيكسون والسيد كيسنجر، الذي لم يجد شيئاً جديداً في مهمة المبعوث المصري، رغم حسن النوايا التي أبرزها المبعوث.
ويتحدث كيسنجر عن حرب 1973، مبرزاً دبلوماسية واشنطن، وهي إفشال مساعي موسكو للعب دور في مسار الحرب، وذلك بتغطية جميع خسائر إسرائيل من الأسلحة وبسرعة، بحيث لا تتمكن مصر من تحقيق أي مكسب عن طريق القوة، كما يشير إلى زيارته إلى موسكو للاتفاق على وقف إطلاق النار بين إسرائيل ومصر مع طرح مشروع أميركي – سوفيتي لوقف الحرب أمام مجلس الأمن، وأنه ورغم وقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر 1973، فإن إسرائيل استمرت في العبور من الثغرة المصرية لاكتمال الحصار على الجيش المصري في سيناء حتى يوم 24 أكتوبر.
يتحدث كيسنجر عن التبدلات التي حدثت في مواقف السادات، من الحرب والسلام حيث كان عام 1970 يتكلم عن استحالة الاعتراف بإسرائيل، ويتهم واشنطن بتحريك إسرائيل وفق مصالحها، بينما يشير كيسنجر إلى أن واشنطن لم تكن تعطي السادات أهمية في تبديل المواقف أو تبني خطوات غير عادية تبدل خريطة الوضع الراهن آنذاك، كما أن حسابات واشنطن بأن السادات لن يستمر مدة طويلة كرئيس، فهو لا يملك السحر الناصري، لكنه قادر على اتخاذ خطوات دراماتيكية مثل قراراته، بمنع مصادرة الأملاك الخاصة، كما أظهر استقلاليته عن المجموعة التي كانت وريثة عبدالناصر، ويتزعمها علي صبري وزير الداخلية، وشعراوي جمعة، وحافظ على الخط الذي تبناه الرئيس عبدالناصر تجاه إسرائيل، لكنه أدرك حتمية البحث عن مسار آخر تمثل في اقتراحه في فبراير 1971 بفتح قناة السويس إذا انسحبت إسرائيل من ضفة القناة إلى داخل إسرائيل، ثم يقرر إبعاد المستشارين الروس في يوليو 1972، بعد أن شعر بثقل تواجدهم على استقلالية قراراته، ومع ذلك فقد أدرك تباعد المواقف بينه وبين إسرائيل، التي تريد مفاوضات مباشرة، بينما السادات يريد قبول إسرائيل الانسحاب قبل الدخول في مفاوضات معها.
ومن هذا التباعد اقتنع السادات بضرورة حرب أكتوبر 1973، ويذكر كيسنجر أنه تلقى رسالة من الرئيس السادات في أول يوم من حرب أكتوبر يبلغه فيها بأن أهداف مصر محدودة، فبعد وقف إطلاق النار تبدأ الجهود لمفاوضات السلام، ويرد عليه كسينجر قائلاً بدأت الحرب بأسلحة سوفيتية وستصل السلام بالدبلوماسية الأميركية.
كان واضحاً أن السادات مع نهاية حرب أكتوبر طوى صفحات المواجهة وانتابه شيء من الإيحاء بأن خطواته القادمة تنشد السلام عبر لقاءات مملوءة بالنوايا الحسنة، يقودها بنفسه، متظللاً بهذه الإيحاءات التي جعلته لا يتوقف عند مشكلة حدود ولا عقدة تقرير المصير.
كان همه مصر بلا خدوش الاحتلال، وكل طرف من العرب الآخرين يعالج قضاياه، وفوق ذلك وضع ثقته في كيسنجر الذي أبلغه في بداية الاجتماعات بأن روسيا تعطيه سلاحاً وأميركا تعطيه سلاماً.
من الملاحظ أن الإعلام المصري لم يتقرب من هذا الكتاب الذي ينشر فلسفة السادات كما تبلورت عبر التجارب والصدامات.
نقلا عن القبس