تجليات القوة الناعمة
خيري منصور
ما كتبه جوزيف ناي عن القوة الناعمة سرعان ما تداوله صحفيون ومعلقون ، منهم من أخرج الكلام عن سياقه، ومنهم من اختزل القوة الناعمة إلى الفنون.
والحقيقة أن القوة الناعمة تشمل الثقافة كلها وكذلك التمدن وأنماط التفكير، وهي تتسرب بسلاسة عابرة الحدود، ونعومتها لا تعني أنها عزلاء أو هشة، لأن قوتها تكمن في العمق وهي قوة إشعاعية تمارس نفوذها عن بعد، ولا تحتاج إلى طائرات أو صواريخ لحملها.
وأول مثال في التاريخ للقوة الناعمة هو أثينا اليونانية مقابل أسبارطة التي أصبحت فيما بعد مصطلحاً ذا دلالة عسكرية، فالفلاسفة اليونانيون يعيشون معنا بعد أكثر من ألفي عام من رحيلهم ، وكذلك الأساطير اليونانية التي تحولت إلى منجم سحري يمد الفنون والآداب.
ومن يتحدثون عن القوة الناعمة في عصرنا نادراً ما يأتون بأمثلة تجسد هذه القوة، لهذا يبقى المفهوم أقرب إلى التجريد!
وعلى سبيل المثال رأى بعض النقاد العرب أن الدراما التركية ومسلسلاتها ذات الحلقات التي لا تنتهي نوع من القوة الناعمة، لأنها تتسلل إلى غرف نومنا ، لكن السؤال المحذوف من هذا السياق هو ما الذي تقدمه هذه الدراما؟
وهل هي أقرب إلى الإعلانات السياحية لفرط تركيزها على الطبيعة وملامح الشخصيات؟
والمثال الأدق قدر تعلق الأمر بالعالم العربي هو مصر الخمسينات والستينات من القرن الماضي، حين كانت مصدر إشعاع فكري من خلال كوكبة من الرواد في مختلف مجالات المعرفة، إضافة إلى سينما الأبيض والأسود التي استمدت معظم مادتها من روايات مهمة لأبرز الكتاب العرب في تلك المرحلة!
وحين نقول إن القوة الناعمة ليست عزلاء، فإن معنى ذلك أنها مدججة بأسلحة لكن من طراز آخر، ومن أسلحتها التنوير والتبشير بالحداثة وبث ثقافة التمدن المتجاوزة للهويات الصغرى والانتماءات الطائفية.
وبهذا المعنى، تكون النعومة ملمساً خارجياً لكن ما تحمله في داخلها بالغ القوة والتماسك، لأنها تدافع عن منظومة قيم إنسانية وعن جملة من المفاهيم المضادة للبدائية والتوحش.
والامبراطوريات التي امتلكت القوة الخشنة فقط بادت لأنها حلقت بجناح واحد.Original Article