«ترييف» السياسة
نتيجة لاجتماع صنوي الفشل التنموي المحتوم، الاستبداد والفساد، مع سوء الإدارة الكلية النوعية للموارد والأصول المادية والبشرية، فقد راحت ظاهرة العشوائيات تتوسع وتغزو العواصم والمدن العربية الكبرى بعد هجران سكان القرى والأرياف لأماكن سكناهم بسبب انهيار أوضاعهم الزراعية والحرفية (الاقتصادية)، وترتيبا المعيشية، والنزوح باتجاه المراكز الحضرية، وهي هنا العواصم والمدن الكبرى التي تستحوذ على الحصة العظمى عادة من التوظيفات الاستثمارية العامة والخاصة الموجهة لتعظيم نمو إجمالي الناتج المحلي، وعلى النصيب الأعظم من مخصصات موازنة الدولة الخاصة بالتعمير والتعليم والصحة، مقابل إهمال وتهميش الأطراف.
والهجرة من الريف إلى المدينة، ليست حدثاً استثنائياً أو عابراً، وإنما هي ديناميكية عضوية ضمن نسق هيكلي عام لحراك الدورة الاقتصادية والدورة المجتمعية بصفة عامة. عند هذا الحد يبدو الحراك «النزوحي» طبيعياً ومستوعباً ضمن شروط النمو والتوسع الرأسمالي والحداثي للمدن والمراكز الحضرية. إنما الذي حصل في عالمنا العربي، اعتباراً من منتصف سبعينات القرن الماضي، كان عبارة عن تدفقات خارج السيطرة بعد أن ظهرت أولى تقرحات الإخفاق التنموي المتمثل ها هنا في غياب التنمية الأفقية التي تشمل المراكز والأطراف، المدن والأرياف، والتي تؤمن عادة التوازن المعقول في عملية نشر النمو أفقياً، كما هو جارٍ في البلدان المتقدمة والبلدان المتحوّلة اقتصادياً (في أوروبا الشرقية والوسطى) وعدد من البلدان النامية ذات الأسواق الصاعدة، عبر موازنات السلطات البلدية المحلية.
فكان أن أدى ذلك بطبيعة الحال إلى ترييف المدن عوضاً عن هدف التخطيط التأشيري المتمثل في نقل عملية التمدين والتحديث من المدن إلى الأرياف. وبعد ترييف المدن، من حيث طغيان الريفي على المديني بدلاً من حدوث العكس المفترض، متمثلاً في «غزو» أنماط الحياة المدينية الحداثية للأطراف، فقد كان من الطبيعي أن يمتد هذا المد العشوائي للترييف ليطاول مختلف أنساق البناء الفوقي للمجتمعات العربية، لاسيما الثقافة والفكر وبضمنه الفكر السياسي والمناقبيات الناظمة لعلاقات الأفراد في إطار عملية إعادة الإنتاج اليومية لإجمالي الناتج القومي.
هذه العشوائية المنقولة «حركياً»، بكل ثقلها المادي والثقافي الضحل، بحسبان محتواه الخفيض والرث، إلى الأبنية الفوقية سالفة الذكر، هي التي ستكون مسؤولة فيما بعد (بعد سبعينات وثمانينات القرن الماضي)، عن الترييف الذي أصاب السياسة كأداة اشتغال لدى المستويات المختلفة من الإدارة المجتمعية الكلية، وعن بؤس وتواضع الحصاد العام لنتاجات الاشتغال بها من جانب أطراف إدارتها.
وما تعانيه اليوم معظم مجتمعاتنا العربية من انعدام فرص إصابة أي نجاح في استخدام السياسة كأداة فعّالة في إحداث النقلات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الصغيرة والكبيرة على حد سواء، والإسهام في تسريع خطى التقدم المحرز، ناجمٌ في كثير من جوانبه، عن حالة الترييف والعشوائية التي أضحت عليها السياسة كنتيجة محتمة للتحولات الاجتماعية الارتدادية التي شهدتها المدينة العربية في علاقتها الملتبسة بضواحيها وأطرافها وبضمنها أريافها النائية. وهذا بحد ذاته نوع من الأسقام الاجتماعية والثقافية التي ربما ارتقت، إن شئنا المكاشفة، إلى مرتبة المرض العضال المعبَّر عنه فيزيائياً بالتشوهات التي تصيب الخلايا الموجودة في هياكل العضلات المسؤولة عن الحركة في جسم الإنسان. أما العلاج فلا نراه سوى في التخطيط العلمي التأشيري، السوسيو – اقتصادي لإعادة الاعتبار للمدينة العربية المعاصرة ودورها الحضاري التاريخي في ارتياد آفاق النهضة والعمران المادي والثقافي. وقوام ذلك تنمية أفقية متوازنة بين المراكز الحضرية والأطراف.. تنمية من شأنها أن ترفع الأطراف وتقربها من إيقاع الحياة الاجتماعية والثقافية للمدينة العربية المعاصرة.
د. محمد الصياد
alsayyadm@yahoo.comOriginal Article