قضايا ودراسات

تسييس فيروز

يوسف أبولوز

تحمل فيروز جواز سفر فيه قبالة خانة الجنسية: «عربية.. إنسانية.. عالمية»، ولذلك، كانت دائماً وأبداً منذ أن كانت صبية بيروتية تكبر مع الحبق والحنون، وحتى وهي اليوم في الثمانين عصية، بل مستحيلة على التسييس أو الاختطاف إلى طائفة أو مذهب أو حزب أو سلطة سياسية أو «عشيرة» إيديولوجية، وإن كان من سرّ مخبأ عادة في قلوب وأرواح العظماء والعظيمات في الفنون التي تغسل الإنسان مما يعلق في روحه وحتى في بدنه من وسخ الدنيا واختزال الدين في جماعة أو في حزب، فإن هذا هو بالضبط سرّ فيروز التي وصفها الكاتب المصري طارق الشناوي بأنها أيقونة عربية.
حاولت أحزاب وأنظمة (والغريب أنها أنظمة استبدادية) شراء فيروز، بالمعنى المعنوي، بالطبع، وليس بالمعنى المادي، ولكن هذا الشراء باء بالفشل، وأيضاً، حاولت سلطات السلاح والقوة والتشبيح (الخشن والناعم) تسييس «جارة القمر»، وأيضاً، فشل هذا التسييس المباشر وغير المباشر حتى لو كان صوت فيروز الحنون ينطلق كل صباح مع أثير المحطات الصوتية والصورية للطغاة المنتصرين دائماً في وسائل الإعلام، فالطاغية كأي بني آدم..!!!، وهل هو بني آدم..؟؟!!).. يطرب للغناء.. ولكن كيف يتم هذا التسييس؟؟.. ببساطة، بالمبالغة في إذاعة أغاني فيروز، خصوصاً في الصباح، وقبل إطلاق الوجبة الأولى من البراميل، أو قبل أن يأخذ المهاجرون أماكنهم المثالية في قوارب المطاط باتجاه الرحيل إلى أوروبا الشقراء الحنونة على هؤلاء الغرباء.
تسييس فيروز وغير فيروز من مغنّين ومسرحيين وموسيقيين وشعراء يكون عادة عن طريق أشخاص محترفين في النفاق للفن، أو أنهم يبدون على السطح الثقافي في منتهى (الجدية الفكرية)، وهم يعتبرون، ضمنياً، أن صوت السيدة الملائكية هو بالضرورة من ضمن ممتلكات مزرعة (السيد الرئيس)، وإذا كان الوصف إيحائياً وثقيلاً، فلنقل (السيد البطريرك).. أو (السيد الإمبراطور).. لا فرق.. بمن فيهم (السيد الملا) ذو العمامة السوداء والوشاح الأصفر، فهو الآخر يحب الغناء.. ولو كان على الطريقة العاشورائية.
نكتب ذلك بمرارة وبشيء من الغيظ أيضاً، ونحن نعاني هذا الفصام النفسي الوجودي بين أناس يكرهون الحياة، ويحبون فيروز.. فهي هذه المرأة التي ملأت الأرض بالرفق والمحبة والحنان.. أصبح صوتها للجميع، مع أن جوهر هذا الصوت هو من حق من يحبون الحياة.
منذ الثنائي عاصي ومنصور ومنذ «المحطة» و«بيترا».. كانت وما زالت بياعة الخواتم بعيدة عن السياسة والسلطة ورموز الحكم، ورموز المؤسسات، وحتى بعيدة عن فضاءات المثقفين المؤدلجين أو جماعة اليمين أو جماعة اليسار أو حتى الوسط.. بقيت مثل دولة مستقلة لها شعب من أعراق وإثنيات وعقائد مختلفة.. تذوب كلها مرة واحدة مثل كمشة ملح في كأس ماء.. فور أن تقف على خشبة المسرح بثوبها الطويل.. وتغني من حنجرة مولودة من الحرير.
تسريبات صغيرة وخفيفة من مملكة السيدة الأيقونية من ألبومها الجديد (ببالي) وفيه هذه القطرات العطرية من أغنية (لمين):
«لمين بيبكي الحور
لمين له الأرض بتدور
يبكي من أجل ذلك الرجل الذي ملأ بيت بيّاعة الخواتم بالحبق والحنون.

y.abulouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى