غير مصنفة

تصدع حوامل الحداثة العربية

د. حسن مدن

ونحن نكثر الحديث عن نكوص الحداثة العربية، ولنقل عن النزر اليسير الذي تحقق منها، علينا مقاربة الموضوع من جوانبه المختلفة، لا الاكتفاء بجانب وحيد منه.
نال الشق الثقافي – الفكري حيزاً ملحوظاً من الاهتمام لدى من يبحثون في أمر هذا النكوص، وهم في ذلك محقون، فمكان النزعات الحداثية، كما وجدناها في التيارات الفكرية الجديدة، ومنطلقات مشروع النهضة والتجديد الديني على أيادي رواده الكبار في مصر وبلاد الشام وتونس والمغرب وغيرها من الأقاليم العربية، حلت النزعات السلفية والأصولية، التي من تحت عباءتها خرجت أفاعي التكفير والتطرف والدعوة للعنف والتحريض عليه، لا ضد الحكومات وحدها، وإنما ضد المجتمع برمته.
ويدور حديث مهم عن تراجع منظومة التعليم العربية، ودون استثناء، التي عهد بها إلى مسؤولين أبعد ما يكونون عن الصفات التي يفترض أن تتوفر في من يضع برامج ومناهج وخطط التعليم في عالم اليوم، وفي حالات كثيرة، وتحت شعار تطوير التعليم، تمّ اللجوء إلى بيوت الخبرة الأجنبية، ظناً منا أنها ستقوم بما عجزنا نحن عنه، فلم تفعل شيئاً يعتد به.
وصفات بيوت الخبرة هذه ركزت على شق واحد يتيم هو ملاءمة، أو تكييف التعليم لسوق العمل، بمعزل عن الرسالة التربوية والتثقيفية للتعليم، وأيضاً بمعزل عن حقيقة أن التنمية نفسها حين يغيب عنها بعد العدالة الاجتماعية، تتحول، على الأقل في بعض أبعادها، إلى إحدى آليات الإفقار وتوسيع شقة التفاوتات الطبقية في المجتمع.
ما هو جدير بالمزيد من البحث المعمق هو تصدع الحوامل الاجتماعية للحداثة، ويجري حديث مهم ومحق أيضاً عن تلاشي أو تفكك الطبقة الوسطى في المجتمعات العربية، وآثار ذلك على تضاؤل حيز الحداثة التي تكاد تنكفئ إلى جزر صغيرة معزولة في محيط محافظ، بالنظر إلى أن هذه الطبقة، وفي كل المجتمعات، هي أحد أهم الحوامل الاجتماعية للحداثة، كون قوامها يعتمد على المتعلمين بصورة جيدة والتكنوقراط والمنخرطين في الأنشطة الذهنية، تمييزاً لها عن الأنشطة اليدوية.
لكن في هذا الشق بالذات ينبغي ملاحظة أنه ليس الطبقة الوسطى وحدها من تصدعت بسبب تزايد اتساع الشقة بين أقلية مترفة وغالبية فقيرة، حتى بالمفهوم النسبي للفقر، وإنما أيضاً تصدع الطبقة العاملة الحديثة، المرتبطة بالصناعة تحديداً، والتي كانت تتمركز في مواقع عمل ذات طاقة استيعاب كبيرة جداً، فمن هذه الطبقة بالذات برزت النقابات العمالية المستقلة والفاعلة، وأدى ارتباط هذه الطبقة بالتكنولوجيا الحديثة إلى توسيع مداركها ومهاراتها، وقابلياتها لتشرب أفكار الحداثة والتقدم.
أدت الخصخصة العشوائية وتفكيك القطاع العام وتصفية دوره القيادي في اقتصاد بلدان مكتظة بالسكان، وتقليص الدور الاجتماعي للدولة تدريجياً وصولاً لتخليها، في حالات كثيرة عن هذا الدور، إلى تشتيت هذه الطبقة وإفقارها، ما انعكس، سلباً، على علاقتها بالحداثة.

dr.h.madan@hotmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى