ثلاثة أنواع من المعتاد الجديد
عبد المنعم سعيد
هناك حالة من الاستعجال لدى المراقبين والمحللين، على تبيان أن العالم ينقلب رأسا على عقب كلما جد جديد على العلاقات الدولية، حيث يرى حدثا ما باعتباره نقطة فاصلة ما بين مرحلة وأخرى. المسألة فيها الكثير من الشوق إلى وجود تغيير جذرى، أو هو انعكاس لحالة من الضجر من أن نجد فى الصباح ما كان ساريا فى المساء السابق، أو كلاهما معا. الأمر هكذا يحتاج درجة كبيرة من الرصانة، وحينما حلت جائحة الكورونا فإن الحديث عن الانقلاب ذاع دونما معرفة بشكله وفصله وكيف يؤثر على حياتنا؛ وكان الرأى هنا هو أن الأزمات الكبرى كاشفة أكثر منها منشئة للأوضاع الجديدة. والواقع هو أن العالم لا يتوقف عن التغيير بما هو قليل وما هو كثير، وعندما عم البلاء اختلط القليل بالكثير، وكان هذا وذاك يتم بأشكال كمية، يمكن الآن القول بأنها باتت نوعية تأخذ شكلا معتادا جديدا. استقر الناس على التعايش مع أوضاع جديدة، ولكن التلاميذ سوف يعودون إلى المدارس، والعمال إلى المصانع، والموظفين إلى أعمالهم فى الحكومة أو القطاع الخاص. هناك صعوبة بالطبع فيما استقر عليه الناس فى المعتاد الجديد/ القديم، وهو أن يلتقى الناس وأن يقوموا بأعمالهم وجها لوجه وليس عبر الأدوات الافتراضية. شركة «آبل» وجدت صعوبة فى عودة موظفيها مرة أخرى بعد أن غادروا مساكنهم إلى جهات أخرى «متباعدة»، ولم تكن هناك مشكلة فى العمل القائم على الأساليب الافتراضية من التواجد فى مواقع أخرى بعيدة، حيث لم يعد هناك فارق فى العمل مهما بعدت المسافة. الأمر لا كان سهلا، ولا كان فى مصلحة العمل، وآن للطيور أن تعود إلى أوكارها. ولكن ذلك سوف يحدث بعد اتخاذ الإجراءات، واتباع الأساليب المرعية فى زمن الوباء. لم يعد العالم كما كان تماما، وإنما بات متغيرا فى مكانه!.
معتاد آخر جديد بزغ بقوة عندما انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان بعد عشرين عاما من الحرب. أعلن رئيس هيئة الأركان الأمريكية «مايك ميللى» أن الولايات المتحدة حققت «نصرا لوجستيا»- أى فى سحب قواتها وأنصارها من كابول- ولكنها أحرزت «فشلا استراتيجيا»، أى هزيمة الإرهاب واستئصاله. ذهب الأمريكيون وحلفاؤهم إلى أفغانستان، وأرسلوا قوات وطائرات مسيّرة وغير مسيّرة إلى بقية العالم، لمطاردة الإرهاب والانتصار عليه. ما حدث بالفعل هو أن الحرب ضد الإرهاب باتت نوعا من «الحرب الأبدية Forever War» التى مثل السرطان لا تكف عن الانتقال والانتشار، واعتراض الحياة والتنمية والمسار الإنسانى فى العموم. ما توصلت إليه دول العالم بات أنه لا بد من استمرار مسيرة البشر وكأنه لا يوجد إرهاب، ومقاومة الإرهاب كما تتم مقاومة الجريمة المنظمة بحيث لا تشل قدرة الدول على التقدم. ويحدث ذلك بالطبع بحيث تتبع كافة الإجراءات الاحترازية من المتابعة المخابراتية، وحماية المطارات والطائرات من الخطر، واختراع التكنولوجيات التى تكشف الأسلحة والمتفجرات، واتباع البشر لقواعد الكشف والشفافية التى يتيحها الذكاء الاصطناعى، وأساليب أخرى كثيرة.
المعتاد الثالث هو أن الصين قد باتت قوة عظمى، ولم تعد فى سبيلها لكى تكون كذلك، وإذا كان أول إشهاراتها أنها لم تعد تعتمد على الولايات المتحدة فى مقاومة الإرهاب فى أفغانستان، وإنما سوف تسعى لكى تقيم تعاونا أو تحالفا أو ائتلافا بينها وبين باكستان وروسيا وإيران لكى لا تكون أفغانستان دولة مضيفة للإرهاب. ما عدا ذلك لا يهم، فالصين ليست مهتمة بمدى انتشار الديمقراطية فى كابول، واهتمامها كان ولا يزال هو استمرار عملية البناء الداخلى فى الصين على مسار الدولة العظمى التى تصدر للعالم كل شىء ومعه تصل إلى الفضاء الخارجى؛ وإذا كان الأمريكيون يعتقدون أن الصين ليس فى إمكانها إنتاج شركات مثل «أبل» و«أمازون» أو السيارة الكهربائية، فإن الصين الآن لديها «على بابا» و«جى 5» وسيارات كهربائية وأقمار صناعية وشركات عملاقة ومشروع كونى «الحزام والطريق». ما يجعل الصعود الصينى الكبير أخاذا هو أنه مصاحب بالخروج الأمريكى من اليابس إلى البحر، وبناء غواصات نووية على الطريقة التقليدية التى كان فيها العالم يعيش على معتاد سابق، قائم على سباق التسلح الذى أنهك فى زمان سابق الاتحاد السوفيتى، ساعة إنتاج برنامج حرب النجوم. المعتاد الجديد مختلف وأشكاله جديدة يحتاج اكتشافها إلى ما هو أكثر من الكسل، ويرفض اتباع قاعدة أن التاريخ يعيد نفسه، بينما هو جديد تماما.
نقلاً عن “المصري اليوم“