جديد الكتب

حرب الدعاية العالمية في جنوب إفريقيا

تأليف: رون نيسكون
عرض وترجمة: نضال إبراهيم

على مدى خمسين عاماً، أنفقت حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا ما يقدر ب 100 مليون دولار سنوياً على حملات التضليل والتشويه الإعلامي، للتغطية على ممارساتها البشعة بحق السود، فكانت موجّهة بشكل خاص إلى الرأي العام البريطاني والأمريكي. يسعى الصحفي رون نيكسون في عمله هذا، إلى تقديم صورة تفصيلية لهذه الحملات الدعائية التي زورت الحقائق من خلال كشف شبكة معقدة من جماعات الضغط موضحاً فيه المؤامرة الكبرى على السود في جنوب إفريقيا ودور الإعلام الخطر عند توجيهه لخدمة الأنظمة العنصرية.
يسلط الصحفي رون نيكسون الضوء على أحد الجوانب المنسية تقريباً من معركة طويلة على الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وهي الحملة الدعائية العالمية التي شنتها حكومة جنوب إفريقيا ضد السود، في محاولة منها لحشد التأييد للنظام العنصري، وذلك من خلال إجراء مقابلات مع العديد من السياسيين والإعلاميين، والاطلاع على آلاف الوثائق التي لم تكن متاحة سابقاً من الأرشيف الجنوب إفريقي، والأمريكي والبريطاني، والنتيجة من وراء عمل الكاتب البحثي هي إلقاء نظرة مهمة على كيفية إدارة صورة الفصل العنصري، ودعم النظام، خلال خمسين عاماً من النضال والاحتجاج ضد العنصرية.
وهذا الكتاب لرون نيكسون – وهو أمريكي من أصل إفريقي، مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» من واشنطن، وزميل زائر في قسم الإعلام والدراسات الصحافية في جامعة ويتواترسراند – صدر حديثاً عن دار «بلوتو برس» البريطانية في 238 صفحة من القطع المتوسط، في 15 فصلاً بعد المقدمة، وهي: الفصل العنصري جيد للسود، في الدفاع عن الفصل العنصري، اتخاذ موقف هجومي، عملية «بلاكووش»، «مولدرغيت»، المشاركة البنّاءة، جنوب إفريقيا حرة، وقف حركة مناهضة الفصل العنصري، العقوبات تؤذي فقط السود، المثبّت، عملية «هاردبريك»، فيديو مكافحة العقوبات، رجل الفصل العنصري في أنغولا، الرمق الأخير للفصل العنصري، نهاية الفصل العنصري.

سود سعداء!

عندما كان الصحفي رون نيكسون طفلاً صغيراً في الولايات المتحدة، أعطته جدته مجلة عن جنوب إفريقيا، ظهرت له في صفحات المجلة صور للحيوانات البرية الرائعة، وغروب الشمس والسود السعداء على الشاطئ.
لكن بعد عقود، يدرك نيكسون أن المجلة كانت جزءاً من الدعاية التي كان قسم الاستخبارات في حكومة الفصل العنصري ينتجها بشكل ممنهج، وهي واحدة من المنشورات التي لا تعد ولا تحصى، والموزعة دولياً تحت ستار أنها من المجلات «العادية».
ويشير نيكسون إلى أنه لفهم نطاق وتأثير الحرب الدعائية حينها، أجرت شركة علاقات عامة في نيويورك عام 1970 مسحاً مكلفاً عن جنوب إفريقيا، لمعرفة ما يفكر الناس به حيال الفصل العنصري في جنوب إفريقيا على المستوى الدولي. فكانت النتائج أنه بلد غير جميل، وهو ثاني أكثر دولة غير شعبية في العالم، بعد أوغندا زمن عيدي أمين، حتى إنها كانت تعتبر «أقل تفضيلاً» من الاتحاد السوفييتي والصين.
عند هذه النقطة يوضح نيكسون أن الحرب الدعائية كانت في ذروتها، واستطاعت أن تزوّر الكثير من الحقائق المتعلقة بحكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
ويبين أنه منذ الأيام الأولى من الفصل العنصري في أواخر سنوات الأربعينات من القرن الماضي، حينما كان دانيال فرانسوا مالان يشغل رئاسة الوزراء من 1948 إلى 1954، سعت حكومته إلى كسب دعم الولايات المتحدة، من خلال إقناع الأمريكيين بأن حكومة الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا كانت حصناً منيعاً في وجه تمدد الشيوعية داخل القارة السمراء.
كما يذكر أنه زمن خليفة مالان، يوهانس غيرهاردوس ستريجدوم الذي بقي على رأس الحكومة من 1954 إلى 1958، كانت آلة دعاية الفصل العنصري وصلت إلى مستوى عالٍ واحترافية كبيرة، لكن وسط انتقادات دولية متزايدة وبسبب الاستياء والاشمئزاز العام مما حصل في مذبحة شاربفيل 21 مارس / آذار 1960، حيث قتلت شرطة الفصل العنصري 69 من المتظاهرين السود، ارتأت حكومته ضرورة إنتاج مواد إعلامية مؤيدة للفصل العنصري على وجه السرعة. فكلفت منظمة رايت هاملتون، وهي شركة علاقات عامة لها خبرة في تمثيل الحكومات التي لا تحظى بشعبية في العالم، فأنتجت مقالات وأفلام تتحدث عن السود المبتهجين في جنوب إفريقيا والحياة البرية ذات المناظر الخلابة، وتوزعها في جميع أنحاء العالم.

شراء الذمم والرشى

كان وزير الإعلام حينها هو كوني مولدر الذي شغل الوزارة من 1968 إلى 1977. اكتسبت جهود الدعاية في جنوب إفريقيا زخماً قوياً وخطراً في عهده. بلّغ مولدر الحكومة حينها أن ما يتعين على حكومة جنوب إفريقيا أن تقوم به هو حملة من شراء الذمم، وإعطاء الرشى، واستخدام أسلوب الخداع للوصول إلى قلوب وعقول العالم.
واستعان حينها مولدر بصحفي سابق يدعى إيشيل رودي لمواجهة النظرة السلبية المتشكلة عن حكومة جنوب إفريقيا والمنتشرة في جميع أنحاء العالم، وتم تقديم تمويل سري له بالملايين حسبما يعلق مؤلف الكتاب نيكسون.
ويضيف أن الصحفي إيشيل رودي كان هو نفسه من اتفق مع شركة العلاقات العامة المكلفة في نيويورك، لإجراء المسح الذي خرج بنتائج مدمرة للشعبية العالمية لجنوب إفريقيا. ومن هذا الإدراك جاءت خطة العمل التي أسست «ذا سيتزن»، وهي صحيفة كانت تهدف إلى مواجهة وسائل الإعلام ذات التوجهات اليسارية مثل صحيفة «ديلي ميل راند».
ويشير الكاتب إلى أنه في نهاية المطاف سقط مولدر، ورودي وجون فورستر رئيس الوزراء في جنوب إفريقيا من 1968 إلى 1978، في فضيحة عرفت باسم «مولدرغيت» التي تورط فيها الثلاثي مع أجهزة المخابرات في ​​تحريك الملايين من ميزانية الدفاع لإجراء سلسلة من المشاريع الدعائية.
لكن – يشير نيكسون – إلى أن الإطاحة بفورستر لم تكن نهاية الحرب الدعائية. على الرغم من أن خلفه بيتر بوتا حل وزارة الإعلام وأنشأ بديلاً عنها، ولكنه احتفظ بما يصل إلى 60 من المشاريع السرية التي أدارها إيشيل رودي.
كان تمدد إعلام حكومة الفصل العنصري كبيراً، ومخالبها تصل إلى كل مكان مؤثر. في المملكة المتحدة، كان هناك نائبان في حزب العمال الحاكم يحصلان على رواتب من حكومة الفصل العنصري، بحسب نيكسون. فقد كانا مكلفين بدعم حكومة الفصل العنصري في مجلس العموم، والتجسس على الجماعات المناهضة للفصل العنصري. كما كان هناك صحفيون ألمان يقومون برحلات سنوية إلى جنوب إفريقيا يتقاضون فيها أموالاً لتجميل صورة حكومة الفصل العنصري في بلادهم، وتم تشكيل فريق في اليابان لإقامة روابط مع النقابات اليابانية. كما تم التعاقد مع خبير دعاية أرجنتيني لوضع مقالات مؤيدة لحكومة جنوب إفريقيا العنصرية في صحف أمريكا الجنوبية. وكانت هناك خطط – تم التخلي عنها لاحقاً – لإنشاء تمويل حزب سياسي نرويجي موالٍ للفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
ويشير إلى أنه في سنوات الثمانينات، قامت شركة علاقات عامة في المملكة المتحدة تدعى «استراتيجي نيتورك إنترناشينال»، بتنظيم حملة لمنع فرض عقوبات على جنوب إفريقيا، وقد أجرت محادثات مع السياسيين في المملكة المتحدة (بما فيهم ديفيد كاميرون) للقيام برحلات إلى جنوب إفريقيا لإقناعهم بأن الأمور ليست كلها سيئة.

أبواق متفانية

يذكر نيكسون أن الجزء الأكبر من جهود حكومة الفصل العنصري كانت موجّهة – رغم تحركاتها في العديد من الدول – إلى الولايات المتحدة. ويتحدث عن شخصيات استثنائية، خاصة من أولئك الأمريكيين السود الذين أصبحوا أبواقاً إعلامية متفانية لحكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
وقد تناول نيكسون في عمله هذا بوضوح، وفي كتاب إلكتروني سابق بعنوان «عملية بلاكووش»، محاولات نظام الفصل العنصري للفوز بتأييد الأمريكيين الأفارقة، وهو ما يعتبره جانباً سريالياً من الحرب الدعائية العالمية لحكومة الفصل العنصري. ومن هذه الشخصيات ماكس يرغان، وهو أمريكي من أصل إفريقي عاش في جنوب إفريقيا لسنوات عديدة، وأصبح من المقربين لأعضاء بارزين في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، مثل غوفان مبيكي وأي بي إكسوما.
عاد يرغان إلى الولايات المتحدة لدعم حقوق السود في جنوب إفريقيا جنباً إلى جنب مع ناشطين وسياسيين آخرين، لكن فجأة أبلغ مكتب التحقيقات الفيدرالي عن رفاقه السياسيين، وكان يقوم بجولات في جنوب إفريقيا محذراً من شرور الشيوعية، حسبما يكتب نيكسون. وفي عام 1953، أجرت مجلة أمريكية مقابلة مع يرغان أشار فيها إلى أن «حكومة جنوب إفريقيا، بدلاً من ازدرائها، تستحق فهم العالم لسياستها المتعلقة بالفصل العنصري».
ثم يتحدث عن جورج شويلر، وهو أمريكي من أصل إفريقي، كان يدافع بشكل صريح عن حقوق السود في جنوب إفريقيا إلى أن صار مثل يرغان يناهض بشدة الشيوعية. ويعلق نيكسون على ذلك: «في أواخر سنوات الأربعينات، بدأ شويلر بتغيير آرائه السياسية، ربما لإدراكه بأنه أصبح في موقع الاشتباه من قبل وكالات الاستخبارات الأمريكية مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي». وبدءاً من سنوات الستينات كان شويلر يجري مقابلات إذاعية يعبّر فيها عن وجهة نظره، فيقول مثلاً: «لا أعتقد أنه من شأن الناس تغيير المجتمع»، قاصداً بذلك نظام الفصل العنصري.
ويتحدث نيسكون أيضاً عن أندرو تي هاتشر، نائب السكرتير الصحفي لريتشارد نيكسون و«أحد أكثر الشخصيات الأمريكية من أصل إفريقي رفيعة المستوى في العالم». كان هاتشر يعدّ رحلات إلى جنوب إفريقيا للصحفيين والمشرعين الأمريكيين السود، حيث كانت تحركاتهم تحت التحكم بشكل دقيق.
ويشير نيكسون إلى أن هاتشر كان يتلقى الأموال أيضاً من نظام الفصل العنصري للخروج في التلفزيون الأمريكي ليقول للولايات المتحدة إن الوضع «مشجع» في جنوب إفريقيا.
كما يتطرق إلى شخصية ويليام كيز، وهو أمريكي من أصل إفريقي، كان يحصل على 400 ألف دولار في السنة من حكومة الفصل العنصري لكتابة الافتتاحيات في الصحف المحافظة لمهاجمة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي «الشيوعي» كما يقول نيكسون.
وفي مقابلة مع شبكة «سي إن إن» الأمريكية في 1985، تحدث عن ضرورة الاعتراف ب «حقيقة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي كمنظمة إرهابية خارجة على القانون ارتكبت العنف بشكل أساسي ضد السود الأبرياء».

ما وراء الكواليس

يحتوي كتاب نيكسون أيضاً على شذرات لافتة تتعلق بالجدل الدائر ما وراء الكواليس بشأن فرض عقوبات على نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. ويشير نيكسون إلى أن صمود مارغريت تاتشر لتجنب العقوبات ضد نظام الفصل العنصري لم يحركه حتى التماس الملكة نفسها. ويكتب معلقاً: «أخذ المستشارون الملكيون على عاتقهم خطوة غير عادية من تسريب وجهات النظر السياسية للملكة والمسافة المتزايدة بينها وبين رئيسة الوزراء على جنوب إفريقيا إلى صحيفة (صنداي تايمز)».
كما حصلت حكومة الفصل العنصري على «الدعم غير المحدود» من الدعاة في الولايات المتحدة مثل جيمي سواجارت وجيري فالويل، حتى إن فالويل شجّع الملايين من المسيحيين في الولايات المتحدة لشراء العملة الذهبية التي صكت لأول مرة في 1967 لدعم سوق الذهب في جنوب إفريقيا واقتصادها بشكل عام. واستند جزء كبير من معارضة الولايات المتحدة لفرض العقوبات على ركيزتين: الأولى هي أن العقوبات ستضر السود في جنوب إفريقيا أكثر من البيض، والثانية هي ضرورة الحفاظ على قوة جنوب إفريقيا لمنع الشيوعية من اجتياح القارة السمراء.
ويستشهد نيكسون بقول أحد المحافظين وهو وزير أمريكي أسود. «أنا أكره الشيوعية أكثر مما أكره الفصل العنصري».
ويخلص نيكسون في نهاية عمله إلى أنه إذا كانت الحرب الدعائية حققت أي شيء في الواقع، فهو تأخير ما لا يمكن الفرار منه، وهو إعطاء السود حقوقهم على أكمل وجه.

زر الذهاب إلى الأعلى