حساء الحجارة
هيا بنت الحسين
أود أن أشارككم اليوم قصة عشتها مع ابنتي الجليلة ذات الثمانية أعوام، وتبدأ تفاصيلها عندما وجدتها يوماً تعمل على انجاز مشروع مدرسي مستوحى من أسطورة قديمة تدور حول قيمة المشاركة المجتمعية وما يمكن للإنسان أن يحققه من خلال التعاون.
ورغم تنوع الروايات التي جاءت عليها تلك الأسطورة المعروفة باسم «حساء الحجارة»، والتي يُقال إنها ربما تعود إلى القرن الثامن عشر، إلا أنها تحتفظ في كل الثقافات التي أوردتها بذات المغزى، إذ تروي قصة مسافر جائع يصل إلى قرية صغيرة، ويجد سكانها عازفين عن فكرة مشاركة الطعام، فيطلب منهم قِدراً مليئاً بالماء ويضع في داخله حجراً، ويضعه على النار، ثم يبدأ في تذوق ماء القِدر مُدعياً أنه أصبح حساءً لذيذاً، ولكنه سيكون أشهى إذا ما أُضيفت إليه بعض الأعشاب، أو حبة بطاطس أو قطعة لحم.
وشيئاً فشيئاً، يبدأ الجميع بتقديم أطعمة مختلفة لإضافتها إلى القِدر، حتى يكشف المسافر الذكي أن الحساء الشهي جاهز، ويزيل منه الحجر، ليتناول الجميع الحساء الحقيقي بعد اكتمال مكوناته.
دفعتني هذه القصة للتفكُّر في جوهرها، وما تحمله من قيم لا تزال ذات صلة بيومنا هذا على الرغم من أنها رُويت قبل نحو 300 عام، ووجدت نفسي أتساءل: تُرى كم كان عدد الجوعى في العالم عندما ظهرت تلك الحكاية الرمزية؟ وهل كان هناك هذا التفاوت الفادح الذي نراه من حولنا اليوم بين من يملكون ما يكفيهم من طعام وشراب، وآخرين لا يملكون منه حتى ما يعينهم على التشبث بأهداب الحياة؟
ففي أيامنا هذه، تشير الإحصاءات إلى واقع محزن يعاني فيه شخص واحد بين كل تسعة أشخاص حول العالم من سوء التغذية،ومع التدبُّر في حكاية حساء الحجارة، نجد أنها تهدف إلى إبراز أهمية المشاركة والتعاون حيث تتكامل الإسهامات الصغيرة لتشكل إنجازاً كبيراً، وتدعو إلى إجزال العطاء لمن هم أقل حظاً.
وإذا تطرقنا إلى موضوع سوء التغذية، فسنجد أن له شِقَين، الأول ذو صلة باستهلاك البعض في مناطق متفرقة من العالم لكميات كبيرة من الطعام ربما تزيد على حاجتهم الفعلية، والثاني، وعلى النقيض، هناك من لا يملكون قوت يومهم، وهو أمر لم يكن له سابقة مشابهة في التاريخ.
بطبيعة الحال، لا يمكننا أن نُعزي ظاهرة انتشار الجوع إلى سبب واحد بعينه، كما للأسف لا يوجد حل سريع لهذه المشكلة، ولكن عندما تشير الإحصاءات إلى أن العالم يملك من الغذاء ما يكفي لإطعام جميع سكانه، فلا يسعني إلا التفكير في أن المشكلة الحقيقية تكمن في الخلل الذي يَحوُل دون المشاركة العادلة لهذا الغذاء.
وربما كان حجم المأساة سبباً في شعور الجميع أنهم يقفون مكتوفي الأيدي في مواجهة هذه الظاهرة وما تستدعيه من جهود للتغلب عليها، ليأتي السؤال: كيف يمكن لفرد واحد أن يُحدث فرقاً في حياة الملايين من ضحايا الجوع حول العالم؟
أنا شخصياً لم أمر يوماً بقسوة الجوع، ولكني رأيت بنفسي ومن خلال عملي مع برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، كم هو مخيف وموهن للعزيمة، ولا يمكن أن نتوقع لهذه المشكلة أن تختفي بين ليلة وضحاها، ولكنني أؤمن أنه إذا بذل الجميع جهداً مسؤولاً لزيادة مستوى مشاركتهم، ولو بالنذر اليسير، وأقبلوا على تقديم مساهمات صغيرة، فسيمكن الحد من ظاهرة سوء التغذية التي يعاني منها اليوم نحو 300 مليون طفل حول العالم، وتحضرني هنا مقولة للكاتبة الأميركية هيلين كيلر: «بمفردنا، لا يمكننا تحقيق سوى القليل، ولكن معاً، يمكننا القيام بإنجاز كبير».
وعلى الرغم من أنها غالبا تُحلِّق في عالم الخيال، إلا أن حكايات الأطفال الأسطورية يمكنها أن تُحيي في داخلنا قيماً سامية ومهمة من بينها روح المشاركة مع من هم أقل حظاً، وقد يكون الأطفال أنفسهم سبباً في تذكيرنا بدروس وعِبَر مهمة، فنظرتهم إلى الأشياء بريئة وصادقة لم تلوثها التحليلات المعقدة، ولا تخضع أحكامهم لأفكار سياسية أو اقتصادية ذات مآرب بعينها.
ويكفي أن تُراقب عفوية الأطفال وتلقائيتهم عندما يقول أحدهم لطفل «إني جائع»، فستكون ردة فعل الطفل المباشرة هو البحث عن طعام ليعطيه إياه ليأكله.
نقضي الكثير من الوقت في تعليم أطفالنا أهمية مشاركة الآخرين، مؤكدين أن هذه رسالة هامة في الحياة، ولكن يحزّ في نفسي كأم قبل أن أكون سفيرةً الأمم المتحدة للسلام، أن أجد أننا ما زلنا بحاجة للتذكير بهذه الرسالة مراراً من أجل توفير القوت لأطفال يتضورون جوعاً في بقاع عدة من العالم.
وبالنسبة لي، فإن حكاية «حساء الحجارة» تتخطى مجرد فكرة تقاسم الطعام – فنحن نعلم أن هذه القصة تنتهي بتوفر حساء شهي ومغذ يستمتع به جميع سكان القرية، فكما امتلأت معداتهم كذلك شَبِعت نفوسهم، وكل ذلك من خلال مشاركة وجبة واحدة مع الأصدقاء والأقارب.
فالطعام عنصر من العناصر التي تسهم في تعزيز الروابط المجتمعية، وهذه حقيقة يمكننا أن نلمسها من حولنا؛ ففي عالمنا العربي، على سبيل المثال، تعتبر الوجبة العائلية مناسبة مهمة لتجمُّع أفراد الأسرة ولقاء بعضهم البعض، وخلال شهر رمضان المبارك، نقضي أوقاتاً طويلة في تحضير وجبات الإفطار لتقاسمها مع الأهل والأصدقاء، بينما يبقى إطعام المحتاجين من التعاليم التي نشأنا عليها منذ الصِغَر خاصة وأن ديننا الحنيف يحث على هذه القيمة المجتمعية السامية لما لها من أثر إيجابي في المجتمع.
إن شعيرة الصوم تعيننا على الاقتراب مما يشعر به الجوعى لنكون سبباً في عونهم، إلا أن معاناة الطفل المصاب بسوء التغذية تفوق كثيراً ما نشعر به نحن الكبار خلال الصوم، فهم بعيدون كل البعد عن الحصول على احتياجاتهم الأساسية، ما يعيق نمو أجسادهم بطريقة سوية ويعرقل اكتمال بناء قدراتهم العقلية والبدنية، مع افتقارهم للإحساس بالروابط الإنسانية التي يشعر بها أفراد الأسرة عند التفافهم حول مائدة الطعام.
أود اليوم أن أتوجَّه بنداء عاجل باسم ملايين الجوعى حول العالم للقيام بجهد مخلص وجاد للتعاون في تغيير هذا الواقع المؤلم، عبر العمل على عدة محاور أولها: وقف الهدر، فهناك حاجة ماسة أن نتشارك جميعاً بوعي ومسؤولية في الحدّ من هدر الطعام في منازلنا، سواء عبر طهي كميات محدودة من الطعام على قدر حاجتنا الفعلية، وترشيد كميات الطعام التي نبتاعها في الأساس، وثانيا، المشاركة؛ فلا ضير من تخصيص دقائق معدودة للبحث عن برنامج للتبرع بالطعام ومن الأفضل أن يكون في ذات منطقة السكن.
قدموا ما تستطيعون، سواء من الطعام أو المال أو حتى الوقت، فهذا ليس هدراً للوقت. وثالثاً، لنتذكر كيف أن مساهمة بسيطة من الممكن أن تكون ذات مردود كبير في عون المحتاجين.
وأختم بكلمات للأم تيريزا كانت مُحِقَة فيها حين قالت: «نعتقد أحياناً أن الفقر هو الجوع والعري والتشرد، لكن الفقر هو الشعور بالوحدة، والإهمال، وألا يكون هناك من يحبنا، هذا هو الفقر الأعظم. علينا أن نبدأ من بيوتنا للتخلص من هذا النوع من الفقر».