حول مستقبل عقوبة الإعدام
د. غسان العزي
لوقت طويل، كانت عقوبة الإعدام جزءاً لا يتجزأ من الترسانة القمعية أو العقابية للكثير من دول العالم. ولكن منذ أواسط سبعينيات القرن المنصرم، ولا سيما في تسعينياته، أخذ عدد الدول التي تتخلى عن هذه العقوبة يزداد بوتيرة متسارعة. وبحسب منظمة العفو الدولية في نهاية العام 2015 كان 102 بلد قد ألغى نهائياً عقوبة الإعدام لكل أنواع الجرائم. هذا العام ضرب رقماً قياسياً في هذا المضمار إذ شهد إلغاءً لعقوبة الإعدام من قبل أربع دول.
هناك من ناحية أخرى، إلغاء واقعي غير معلن لعقوبة الإعدام في دول لاتزال تعتمد العقوبة من الناحية القانونية. وهذه الدول تصدر أحكاماً بالإعدام، لكن لا يجري تطبيقها في الواقع، فتبقى حبراً على ورق في معظم الحالات التي ترصدها منظمة العفو الدولية، وذلك في انتظار الإلغاء القانوني الرسمي للعقوبة.
وتحت ضغط الجمعيات والمنظمات الإنسانية والقانونية الدولية، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في ديسمبر/كانون الأول 2007، قراراً بإلغاء عقوبة الإعدام، فصوتت لمصلحته 104 دول وعارضته 54 دولة وامتنعت عن التصويت عليه 29 دولة. لكن هذا القرار عرض مجدداً للتصويت فحظي بتأييد 117 دولة في العام 2014 أي ما يعادل ستين في المئة من عدد أعضاء الأمم المتحدة.
في العام 2016 كتب رئيس المجلس الدستوري الفرنسي روبير بادنتر، وهو صاحب مبادرة الدعوة إلى إلغاء عقوبة الإعدام في فرنسا، بأن تقدماً كبيراً يحصل في العالم لجهة هذا الإلغاء، وهو تقدم يتخطى ما كان يأمله الداعون إلى الإلغاء، وهو في طليعتهم، في العام 1981. عدد كبير من العوامل لعب دوراً في هذا التقدم، في طليعتها أن معظم الأنظمة الديمقراطية تعتبر أن هذه العقوبة لا تتفق البتة والقيم الديمقراطية. ولهذا السبب يلاحظ المراقبون أنه عندما ينتقل بلد من البلدان من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، كما في أوروبا الشرقية والوسطى وقبلهما إسبانيا أو اليونان وغيرهما، فغالباً ما يعمد إلى إلغاء عقوبة الإعدام.
ولقد كشفت استطلاعات الرأي في غير بلد يعتنق الديمقراطية كنظام حكم، أن الرأي العام بأغلبيته يؤيد الإبقاء على عقوبة الإعدام، لكن إلغاءها تطلب شجاعة كبيرة من القادة السياسيين، أو كانت شرطاً من شروط الانضمام إلى تكتلات إقليمية كالاتحاد الأوروبي على سبيل المثال.
وعلى الرغم من أن حقوق الإنسان لا يجري احترامها من قبل القوى العظمى التي ترفعها شعاراً وتستخدمها ذريعة في سياساتها التدخلية في دول أخرى، فإنها تبقى موضوعاً لمباحثات دبلوماسية ومفاوضات تدفع في المحصلة في اتجاه إلغاء عقوبة الإعدام قانونياً، أو أقله واقعياً في المزيد من الدول التي تريد أن تبدو بمظهر من يحترم حقوق الإنسان تخلصاً من الضغوط التي تمارسها عليها دولة أو دول كبرى.
من جهة أخرى، ينبغي ألا ننسى أن الجمعيات الدولية والمنظمات غير الحكومية المتخصصة بالدفاع عن حقوق الإنسان تلعب دوراً كبيراً في هذا المضمار، وتستخدم وسائل إقناع تخاطب العقول والمشاعر عبر التركيز على كونية حقوق الإنسان، ومنها الحق بالحياة، والقابلية البشرية للوقوع في الخطأ بدليل العدد الكبير من الأحكام الظالمة الصادرة عن المحاكم، ناهيك بالإحصائيات التي تثبت أن الجريمة لم تتراجع في الدول التي تطبق الحكم بالإعدام، كما أنها لم تستفحل في الدول التي ألغت هذه العقوبة.
من الناحية العلمية والموضوعية قام فريق من الباحثين المكلفين من قبل «المجلس الوطني للبحث العلمي» في الولايات المتحدة بإجراء جردة للثلاثين سنة الماضية من الأبحاث في هذا المجال، وتوصل إلى خلاصة مضمونها أنه من الصعب التأكيد ما إذا كانت هذه العقوبة تؤدي إلى تراجع أو تقدم نسبة أو عدد الجرائم أو أنها من دون تأثير يذكر.
وتمارس الدول التي ألغت العقوبة ضغوطاً على الدول التي لم تفعل بعد، وهذه حالة الاتحاد الأوروبي الذي يشترط على الدول الراغبة بالانضمام إليه أن تلغي هذه العقوبة القصوى.
من الواضح أن التطور التاريخي يذهب في اتجاه إلغاء عقوبة الإعدام لسبب بسيط أن عدد الدول التي تلغيها قانونياً يزداد باضطراد كما يزداد عدد تلك التي لا تطبقها عملياً، وإذا استمرت الأمور على هذه الحال فقد نشهد زوال هذه العقوبة في العالم، على ما يرى المتفائلون.
لكن من الناحية الأخرى فإذا كان العام 2015 قد شهد العدد الأكبر من حالات الإلغاء، إلا أن المفارقة أن هذا العام نفسه شهد تحقق رقم قياسي في مجال تنفيذ العقوبة القصوى في العالم والذي وصل إلى حوالي 1500عملية إعدام، لكنه رقم لم يمنع منظمة العفو الدولية من المحافظة على تفاؤلها وسعيها لإلغاء هذه العقوبة على مستوى العالم.