خنادق حرب عالمية في عيون «صقر» روسي
تأليف: ذا ساكير
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
بكلمات متحررة من الرقابة في فضاء حر، عبر الشبكة العنكبوتية، أطلق المدون الذي سمى نفسه «ذا ساكير»، أو بالعربية تعني «الصقر»، مدونته التي حلل فيها السياسات الدولية، ووقف عند الممارسات الغربية في العالم، وتجاه روسيا تحديداً، والصدامات التي حدثت بين الغرب وروسيا في أوكرانيا، حيث يعود إلى زمن الاتحاد السوفييتي، وما قبل الحرب العالمية الأولى. كما يتوقف عند علاقة روسيا بالإسلام، ودول الجوار، والأحداث الراهنة في العالم، وهو يستقي تحليلاته من خبرته في ميدان التحليل العسكري، ومن خبرته الحياتية والمهنية في أوروبا والولايات المتحدة، ولا يخفي لهجته الصريحة في نقد الازدواجية الغربية، عبر مجموعة من المقالات جمعها في هذا العمل الذي طبعه في الولايات المتحدة، حيث يقيم.
نقرأ في صفحات الكتاب ال 600 الصادر عن دار «نيمبل بوكس» الأمريكية في أواخر 2015، بعضاً من أهم المقالات البارزة التي كتبها المدون المعروف باسم «ذا ساكير» أو «الصقر»، بين 2007 إلى 2015، وهو محلل عسكري ينحدر من عائلة عسكرية من اللاجئين الروس في أوروبا الغربية، حيث عاش معظم حياته. وبعد إنهائه الدراسة في كليتين جامعيتين في الولايات المتحدة الأمريكية، عاد إلى أوروبا ليشغل موقعاً بارزاً كمحلل عسكري، إلا أن الأمر لم يدم به كثيراً، بسبب معارضته العلنية للحروب المدعومة من الغرب في الشيشان، وكرواتيا، والبوسنة وكوسوفو. وبعد إعادة التدريب كمهندس برمجيات، انتقل إلى فلوريدا حيث يعيش الآن مع زوجته، وهي طبيبة بيطرية، وأطفالهما الثلاثة. يقوم بالتدوين باستمرار، حيث بات الأمر نمط حياة له، لا يمكن له أن يستمر في الحياة بدون التدوين والتحليل كما يقول.
اختار في هذا العمل أهم المواضيع من التاريخ، إلى السياسة، إلى الدين، إلى الشؤون العسكرية، والقضايا الاجتماعية، إذ يجدها كلها مرتبطة بواسطة خيط مشترك واحد: صدام الطيف الكامل بين العالم الغربي وما يسميه الكاتب «العالم الحضاري الروسي». وعلى عكس معظم الروس، وخصوصاً عندما يخاطبون الجمهور الغربي، يشعرون بأنهم مجبرون على استخدام لغة دبلوماسية وغير تصادمية، يستخدم الكاتب لغة غير رسمية في التخاطب تقريباً، ويصبح مباشراً، وصريحاً ، بهدف الاقتراب من الحقيقة أكثر.
يرى الكاتب أن آراءه في هذا العمل، حيث ينتقد السياسات الغربية، قد يقرؤها بعض القراء على أنها مسيئة في بعض الأحيان، بسبب واقعيتها، إلا أنه يعتقد أن هناك أيضاً جمهوراً أكبر يبحث عن الحقيقة، والتحليل الأقرب إلى الصواب، وهو في انتقاده تحديداً يستهدف ما يسميه «الإمبراطورية الأنغلو صهيونية». كما يرى أنه يمتلك حرية أكبر عبر نشره على المدونة، إذ يشير إلى أنه يقول ما يريد ويحلل كما يشاء من دون أي رقيب، سواء من دور النشر أو الحكومات أو المديرين، بالتالي يجد في هذا الأمر قوة له. ويقر الكاتب أن العديد من قناعاته تغيرت على مدى السنوات الأخيرة منذ العام 2000، فيما يتعلق بروسيا والغرب وبعض القادة في ممارساتهم السياسية، ويوضح أن كل ما يكتبه يأتي من وجهة نظر روسية، وليست «سوفييتية»، مزيج من سنوات ما قبل 1917 وما بعد 2000، ومن ناحية أخرى من وجهة نظر مسيحية أرثوذكسية «تقليدية».
مهد لهذا العمل الصحفي البرازيلي بيبي أسكوبار، الذي يتحدث عن وجهة نظر هذا «الصقر» الروسي الأصل، وطريقته في رؤية الأحداث في هذه المدونة التي باتت كتاباً. ينقسم الكتاب بعد التمهيد والمقدمة بعنوان «غواصات في الصحراء» إلى الأجزاء التالية: روسيا والإسلام، روسيا وأوكرانيا، روسيا والغرب، الأنغلو-صهيونية (المحافظون الجدد)، أنا شارلي إبدو، سوريا وإيران، المقاومة الفرنسية، الغرب والجنس، الجيش الروسي، الدين، «فاريا» عن أحداث 11 سبتمبر، وملحق في النهاية.
روسيا والإسلام
يتناول في القسم الأول من هذا العمل في سلسلة من المقالات علاقة روسيا بالإسلام، وكيفية النظر إلى الإسلام كجزء طبيعي من روسيا أسيء فهمه على مدى سنوات عديدة، وكيفية تشكيله تهديداً في الوقت ذاته قائلاً عن ذلك: «طبيعة العلاقة الحالية بين روسيا والإسلام معقدة للغاية، مع جوانب جيوستراتيجية وتاريخية واقتصادية واجتماعية وسياسية وروحية. يمكنني القول إن العلاقة الديالكتيكية بين روسيا والإسلام تمر حالياً ببعض التغيرات العميقة والديناميكية جداً، والتي تجعل من الممكن توقع مستقبلها بثقة». ويوضح أن المسلمين قبل 500 عام كانوا متسامحين للغاية مع الكنيسة في روسيا، ولم تتشوه صورتهم إلا مع المغول لأنهم جاؤوا كغزاة.
كما يقف عند الحروب في الشيشان وداغستان والأجزاء الأخرى في روسيا، التي تركت تأثيراً كبيراً في الرأي العام، وتم ربط الكثير من الأعمال الإرهابية بالشيشانيين المسلمين، خاصة في الإعلام، ثم يقف عند الدعم الغربي الأمريكي للمجاهدين في أفغانستان، والعلاقة بين الغرب والتنظيمات الإرهابية، كما يتناول بعضاً من الاختلافات في الجانب الديني، إلا أنه يؤكد أنه «على عكس ما يعتقده الكثير من الناس، فإن التعاون بين الإسلام والمسيحية الأرثوذكسية من السهل تحقيقه»، مشيراً إلى أنه على كلا الجانبين أن يتقبل الاختلافات، وعلى كلا الجانبين الإقرار بحدوث بعض الأخطاء في الماضي، والتشديد على أن لكل شخص الحرية في اختيار دينه، ويؤكد أكثر أنه على المسلمين والمسيحيين الاتفاق بشأن العديد من القضايا الحضارية التي تجمعهم، وتعريفهم القيم الثقافية والاجتماعية، بحيث يستطيع الطرفان أن يقللا من احتمال حدوث أي اختلالات مستقبلية، يمكن استغلالها في السياسة أو الإرهاب.
ويقف في هذا القسم عند السياسة الروسية الداخلية، حيث ينقل صورة عن المزاج العام من الداخل الروسي، والذي بدوره يؤثر في السياسات الروسية، مشيراً إلى أن أغلبية الروس سوف يوافقون اليوم على التالي: أولاً، الغرب ليس صديقاً لروسيا، ولم يكن، ولن يكون، والطريقة الوحيدة للتعامل معه هي من موقع القوة. ثانياً، روسيا تحتاج إلى حكومة قوية بقيادة زعيم قوي. ثالثاً، «الليبراليون» الروس (في الاستخدام الحديث للكلمة) هم مجموعة من المثقفين المنحطين الموالين للولايات المتحدة، ويضمرون كرهاً لروسيا. رابعاً، يجب أن تكون روسيا «دولة اجتماعية» والنموذج الرأسمالي «النقي» خاطئ من الناحية الأخلاقية، وفي الأساس لا قاعدة مستدامة له، كما أظهرت الأزمة المالية العالمية. خامساً، النظام الديمقراطي احتيال وخدع يستخدمها الأغنياء لخدمة مصالحهم الخاصة.
ويقول: «السياسيون الروس ليسوا بعميان عما يحدث، وباستثناء بعض «الليبراليين» غير المخلصين، كلهم يفهمون أن ما يحدث الآن هو صدام الحضارات بين ما بعد المسيحية والغرب العلماني وروسيا ما بعد السوفييتية. والحقيقة أن صدام الحضارات هذا ليس إيديولوجياً، بل سياسياً أيضاً وحتى عسكرياً (كمثال، ما يحدث في أوكرانيا ونشر لأنظمة مضادة للصواريخ في أوروبا الشرقية)، وهو ما يجعل المسائل ملحة أكثر».
الأهداف الروسية في أوكرانيا
في القسم الثاني من عمله، يقف الكاتب عند الواقع الأوكراني الحالي المقسم بين الشرق والغرب، والاختلاف بين الشقين، سواء على مستوى اللغة أو الاقتصاد أو السياسة أو التاريخ أو الثقافة، على خلاف وسط أوكرانيا، وتحديداً كييف التي تجمع المزيج من القسمين، والتي تشهد تنوعاً واختلافاً عن باقي أصقاع أوكرانيا، ويرى أن هذه البلاد تتجه نحو كارثة حقيقية، بغض النظر عمن يحكم، ويقول: «أوكرانيا على الصعيد السياسي أمام كارثة تظهر صورتها ببطء، حيث النخب السياسية فيها تتصارع مع بعضها البعض لجني أرباح وأموال أكثر، والحصول على دعم من الأوليغارشيين المحليين ورعاتهم الغربيين. وعلى الصعيد الاجتماعي، أوكرانيا أشبه ما تكون بقنبلة موقوتة لابد أن تنفجر، عاجلاً أو آجلاً».
يشير الكاتب إلى أن الأهداف الروسية في أوكرانيا واضحة ومباشرة جداً، أولاً، تعتقد روسيا أن أي اتحاد جمركي مع أوكرانيا سوف يكون مفيداً للطرفين. ثانياً، روسيا تأمل أيضاً أنه، مع الوقت، مثل هذا الاتحاد المفيد للطرفين سوف يلعب دوراً في التخفيف من المشاعر المعادية لروسيا (التي أثيرت دائماً من قبل النخب السياسية الأوكرانية)، وذلك بالتالي، يدفع مع الزمن، أوكرانيا إلى أن تصبح عضواً في الاتحاد الأوراسي المستقبلي. ثالثاً، الحكم من خلال التجارب المريرة مع دول أوروبا الوسطى، ودول البلطيق، وجورجيا، حيث تأمل روسيا تحديداً أن تمنع أوكرانيا من أن تصبح المستعمرة التالية للإمبراطورية الأنغلو صهيونية في أوروبا. أخيراً، أغلبية الشعب الروسي تؤمن أن الشعبين الأوكراني والروسي إما شعب واحد أو، على الأقل، «شعبان تجمعها الأخوة»، ولهما تاريخ مشترك، ونداؤهم الطبيعي والمعتاد هو العيش في صداقة وتكاتف مع إخوانهم الأوكرانيين.
روسيا القرن الواحد والعشرين
يتحدث الكاتب في القسم الثالث من عمله عن علاقة روسيا مع الغرب، ويوضح بعض الصور الملتبسة عن روسيا، مشيراً إلى أن روسيا اليوم، هي ليست استمراراً للاتحاد السوفييتي، ولا حتى بشكل أقل، استمراراً لروسيا الأرثوذكسية أيام القياصرة، ويعلق: «لا تصغوا إلى أي واحد يستخدم مثل هذه المرجعيات التاريخية، والتي دائماً ما استخدمت بغرض واحد، وذلك لإخفاء جهل الشخص الذي يحاول استخدامها. إذ إنهم يصنعونها لكليشهات جيدة، ولكن لأجل تحليل سيئ».
ويضيف: «إن روسيا ما بعد 1991 هي أساساً ظاهرة جديدة والتي ظهرت بصعوبة كبيرة، من رماد الاتحاد السوفييتي بعد عقد أو أكثر من الانهيار أو الفوضى المطلقة»، ويوضح أنه «في أعقاب تفكك الاتحاد السوفييتي من قبل النخبة السوفييتية (لم يكن هناك أبداً انهيار الشيوعية) وانقسام الكعكة السوفيتية«إلى»كعكات صغيرة جداً، وجدت روسيا نفسها تحت رحمة قادة قساة فاسدين بالمطلق. عهد يلتسين في الحقيقة يحدد أدنى لحظة في تاريخ الأمة الروسية، ولا حتى الحرب العالمية الثانية راكمت مثل ذلك الدمار والفوضى بحق الشعب الروسي، كما تلك السنوات التسع من «الديمقراطية»، إذ أنه في وقت قصير باتت فيه تلك القوة السوفييتية العظمى «دولة فاشلة» يرثى لحالها. حليفان قريباً جداً لعبا دوراً رئيسياً في هذه العملية، أحدهما في الداخل ما تتم تسميتهم «الأوليغارشيون»، والحليف الثاني في الخارج وهو الولايات المتحدة الأمريكية».
ازدواجية غربية
تحت عنوان فرعي هو «الخيانة العظمى» يطالب الكاتب القراء بتذكر ما حدث في أواخر الثمانينات، وكيف أن الغرب قدم وعوداً لغورباتشوف في حال سحب السوفييت قواتهم المسلحة من أوروبا، فإن حلف شمال الأطلسي لن يتوسع، وكيف أنهم أخبروا الروس بأنهم لو وافقوا على السماح لجمهوريات الاتحاد السوفييتي بالتوجه غرباً، فإنهم سيقدمون دعماً لروسيا على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، وهو ما لم يتحقق، ويرى أن الأمر بات من التاريخ الآن، إلا أن الروس استقوا العبر من تلك المرحلة، وباتت حالة عدم الثقة بين الغرب وروسيا عميقة، فما أعقب كل تلك الوعود هو تفكك الاتحاد السوفييتي والفوضى العارمة التي لايزال الشعب الروسي يدفع ثمنها.
كما يتوقف عند الهجوم على يوغسلافيا السابقة حليفة روسيا، وأن قصف الناتو لجيوب في دول يوغسلافيا أرسل رسائل واضحة وبصوت عالٍ للروس بأن الغرب يكرههم. كما يتوقف عند الحرب في الشيشان والموقف الغربي منها، حيث دعم ما حدث وعزز في إعلامه فكرة أن روسيا تحارب المسلمين، وليس «المتمردين»، من دون ذكر التسامح الديني الموجود بين الروس الذين يعيشون في بلد متعدد الإثنيات والثقافات.
يستمر هذا المدون الخفي الذي يكتب تحت اسم «الصقر» في انتقاداته للممارسات الغربية في العالم، وحالة الازدواجية التي لديها في مواقفها، والشعارات البراقة التي تخفي تحتها مشاريع إمبريالية استعمارية، تكون الشعوب ضحيتها. كما يشير الكاتب إلى أن روسيا حققت في السنوات الأخيرة تقدماً هائلاً، حيث استثمرت في تنمية سياساتها متعددة الأبعاد نحو الجنوب والشرق. وعلى المستوى السياسي شكلت شبكة من التحالفات عبر دخولها في منظمات مثل «منظمة شنغهاي للتعاون»، و«منظمة معاهدة الأمن الجماعي»، و«بريكس»، أما على المستوى العسكري فقد وضعت «أقفالاً عسكرية» في البحر الأسود، والقوقاز، وآسيا الوسطى، وطورت قدراتها لإرسال تعزيزات لهذه «الأقفال». ويعلق: «في الحقيقة، خلقت روسيا طوقاً صحياً لتحمي نفسها من عدم الاستقرار في حدودها الجنوبية. وهذا المزيج من الإجراء العسكري والسياسي أعطى لروسيا درجة كبيرة من المرونة في التجاوب لأية أزمة أو تحدٍ».