قضايا ودراسات

خواطر في «كلمة سبقت»

عبد اللطيف الزبيدي

هذا مبحث من الوزن الثقيل. على أهل الاختصاص التروّي في التفكير، والأناة في التقدير. في القرآن الكريم جملة وردت في خمس آيات، في خمس سور (يونس، هود، طه، فصّلت، الشورى)، لها مكانة خاصة فريدة في الكتاب كله، لكونها تفتح آفاق الفكر على نظرة مختلفة تماماً إلى مفهوم الخلق والكون والحياة، بل الأكوان والحيوات المحتملة، لمَ لا؟
السؤال: لمَ لم تستقْص التفاسير أبعاد هذه الجملة، التي تحتاج إلى ألف فكر عميق؟ اكتفى المفسرون بالشرح في حدود الإنسان، ولم يدرسوا أنها إشارة بعيدة إلى خلق نظام الكون بكامله، فالحياة على الأرض حدث لاحق ضمن مسيرة عامة، بصرف النظر عن مكانة الإنسان في منظومة المخلوقات وصيرورته الاستخلافية.
تكرار الجملة مرات، توكيدٌ قطعيّ، حتى وهي ترد في سياق بشريّ. نتأمل نموذجين: «وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى » (طه 129)، «وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ» (الشورى 14). يمكن أن نفهم من ذلك أن خلق الكون نظام عام، وأن الأعراض التي تحدث في حياة المخلوقات وما تحدثه الكائنات الحيّة، ومنها الإنسان، هي مسؤولية خاصة، لا علاقة لها بالضرورة بمبدأ الخلق، الذي هو الكلمة التأسيسية التكوينية التي سبقت.
لمحاولة الفهم:صاحب مصنع السيارات، يعطي أمراً بصناعة مليون مركبة، فتنطلق عجلة الإنتاج، عدد منها يأتي وبه خلل فنيّ، أخرى تنقلب أو تتصادم بسبب فرط السرعة والتهور، والأغلبية تبقى سليمة ضمن عمر افتراضيّ حسب العناية والصيانة المنتظمة. المصنع غير مسؤول عن الخلل والحوادث، تلك مسؤولية الإنسان.خلق الآدميّ أيضا يأتي ضمن سلسلة «إنتاج» حيويّة في نظام الخلق الكونيّ، ولا علاقة لفيزياء التكوين العام بإلقاء الإنسان نفسه في التهلكة، كتدمير صحته أو الانتحار، أو شنّ الحروب، وليس الكون مسؤولاً عن الأمية والتخلف والفوارق، أو التشوهات والأمراض، والاستبداد والفساد.
في هذه الآية جلاء آخر: «وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» (يونس 19). هل نتوقع أن ترسل السماء جيشاً لمنع بوش من احتلال العراق، أو ساركوزي من قصف ليبيا؟ لماذا «أراد» العرب أن يكونوا ضعفاء، مدمّرة بلدانهم، منهوبة ثرواتهم، مفككة جموعهم وجامعتهم؟ القضاء والقدر غير مسؤول عن زرع خلية سرطانية في خاصرتهم صاروا للأسف يتوددون إليها. «وهديناه النجدين»: وضع حدّ للداء أو احتضانه.
لزوم ما يلزم: النتيجة الفلسفية: سوء تقدير أبعاد المسؤولية لدى الإنسان، يؤدي بالضرورة إلى السذاجة في فهم العدل الإلهي. مبحث رائع للجمعة المقبلة، إن شاء الله.
abuzzabaed@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى