قضايا ودراسات

دردشة في المائدة الرمضانيّة

عبد اللطيف الزبيدي
في العربية كوكبة من المرادفات والمتقاربات والمتشابهات، تدور كلها في فلك واحد، يمكن حصره في فرط التعلق بالماضي، بوصفه مرجع الهوية ومصدرها. هو كالبحر للسمك، لا قدرة على تصوّر الحياة خارجه. من هنا خشية التجديد: العادات، التقاليد، الموروث، السنن، الشيم (مع تخصيصها في الاستعمال للإيجابيات)، وبمزيد من التجذير نجد الجبلّة، السليقة، الفطرة، النشأة إلخ.
سنحصر الموضوع في مظهر رمضانيّ بارز: المائدة. لا تسمّى مائدة إلاّ إذا كان عليها طعام. بالمناسبة، لا يوجد ثلاثي يمكن اشتقاقها منه، من حيث أصل المعنى والمدلول. ننتظر المعجم التاريخي. ثمة من يذهب إلى أنها حبشية (إثيوبية). طلب نزولَها من السماء قوم موسى وعيسى، كما ورد في القرآن، وهذه إشارة مفيدة إلى أنها كانت مألوفة في العبرية أو الآرامية أو كلتيهما معاً. محتمل وجائز، ويبقى البحث والبرهان. الطريف هو أن الموائد الرمضانية موروث عادات وتقاليد اجتماعية لا تربطها رابطة مباشرة بالشهر الفضيل. الموروث المطبخيّ هو الذي يتزيّا بزيّ قيم رمضان، فيمسي جزءاً من «الجو». مثلاً: لا يمكن تصور مائدة رمضانية تونسية من دون «البريك»، ورقة العجين الشفافة تُطوى مثلّثاً أو نصف دائرة، وتُحشى باللحم المفروم والبقدونس والكبّار والبيض، التنويعات كثيرة. العثمانيون هم الذين نقلوه إلى المغرب العربيّ. وهل تصح مائدة رمضانية مشرقية من دون قمر الدين وقطايف، أو موائد في مجلس التعاون من دون قوزي؟ يمكن الحديث عن «تتريك» بنسب متفاوتة للمائدة الرمضانية من الماء إلى الماء.
لا يمكن إهمال العادات المكتسبة في أجواء الشهر. قبل بضعة عقود كانت «فوازير رمضان» تحفة ما بعد الإفطار، وكذلك «الكاميرا الخفية». لكن نهر الإنتاج نضبت مياهه وانقطع عن الخرير والمسير، فحلّت كلمة «سابقاً» المشكلة، وصارت الفضائيات تستعيد المخزون القديم تحت عناوين من قبيل «فوازير زمان»، أو تلجأ إلى الكاميرا الخفية من جميع الأصقاع. أما المقاهي فمنوعات شتى من الغناء والعزف الحيّ. البعض يفضل النرد ولعبة الورق، بعد التراويح إلى السحور. أمّا المسلسلات فأكثرها تعارضاً مع أجواء رمضان، تبثه الفضائيات طوال ساعات الصيام، اختباراً لمدى رسوخ إيمان المشاهدين.
يرثي الإنسان لحال المسحّراتية، «بو طبيلة»، ففي عدد من البلدان العربية، أفقدتهم المقادير دورهم الرائع: «اصح يا نايم.. وحّد الدايم»، تولّى الرصاص أداء «الطرَب في المليان»، الأحياء مهجّرون والأحياء مهجورة. ولّى زمان: «واستيقظت أممٌ من رقدة العدمِ»، أيقظوا محمد عبد الوهاب: «أيها النائمون تحت التراب».
لزوم ما يلزم: النتيجة اللغوية: يمكن اشتقاق المائدة من ماد يميد، فمائدة النظام العربيّ تميد ميداً، فهي مائدة مائلة غير مائسة.

abuzzabaed@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى