قضايا ودراسات

دور السلفية الغائب لمواجهة الفكر التكفيري

د. علي محمد فخرو

في مقالة الأسبوع الماضي شدَّدنا على أن المواجهة الشاملة لظاهرة الجهاد التكفيري العنفي تحتاج، إضافة إلى المواجهة الأمنية ، مواجهات أخرى من خلال ثلاث خطوات إضافية : مراجعات نقدية و إصلاحات جذرية للثقافة الإسلامية ، خصوصاً في مكوًّنيها الفقهي وعلوم الحديث ، مناهج دراسية عربية مشتركة ترسّخ الاستنارة بالمقاصد الكبرى للرسالة الإسلامية والتسامح، وأخيراً معالجة أسباب الغضب واليأس عند الشباب والشابات العرب الناتجين عن القهر السياسي والاجتماعي وغياب العدالة الاجتماعية والفرص المتساوية والحرية المعقولة في أرض العرب. وبيّنا ضرورة أن تكون المواجهة مشتركة من قبل سلطات الحكم ومؤسسات المجتمع المدني المعنيّة بالأمر.
بالطبع ، ندرك أن المواجهات الثلاث ستحتاج إلى عقود من السنين لإنضاجها ، خصوصاً في أجواء الخلافات والمنازعات والصراعات العبثية فيما بين الأنظمة السياسية العربية من جهة ، وفي حالة الضعف الشديد للمجتمعات المدنية العربية من جهة أخرى.
لكن يبقى سؤال ملح يحتاج إلى إجابة وهو : أليس من المفروض أن يكون هناك دور مواجهة مؤثّر لمختلف المؤسسات والجماعات التي تنضوي تحت شعار السلفية الإسلامية ، وذلك لمواجهة ظاهرة الجهاد التكفيري العنفي المليئة بالأخطار على سمعة ومكانة ومستقبل الدين الإسلامي من جهة والمتناقضة كلياً مع عدل وسماحة ورحمة الرسالة السماوية الإسلامية من جهة ثانية؟ ما يبرر طرح هذا السؤال هو أن منظري وتابعي وممارسي تعاليم تلك الظاهرة وشعاراتها المفجعة يعتبرون أنفسهم من السلفيين ويسمّون شتّى حركاتهم بالتنظيمات السلفية الجهادية. وهي محاولة لخلط الأوراق والحصول على الدعم العاطفي من قبل الملايين من السلفيين العاديين البسطاء الذين ليسوا في وارد التدقيق والتمحيص.
ولكن لن يكفي أن تميز مختلف الحركات والمدارس السلفية الأخرى نفسها، وتنأى بنفسها عن بشاعات السلفية الجهادية تلك، من خلال تبنيها لأسماء من مثل السلفية العلمية، أو السلفية الإصلاحية، أو السلفية المحافظة الدعوية، أو السلفية المعارضة إلخ.. من الأسماء والصفات المتنوعة.
المطلوب أكثر من ذلك بكثير. المطلوب هو تفكيك ونقد ورفض كل ماهو خاطئ أوضعيف أو ملتبس أو غير عادل أو متناقض مع روح الإسلام أو مختلق كاذب في نظريات وأسس ومنهجيات وتطبيقات وأهداف كل الحركات التي انضوت تحت راية السلفية الجهادية وسمت نفسها بأسماء من مثل «القاعدة» و»داعش» و»النصرة»وتفريعاتها ، على أن تكون عملية التفكيك والنقد والرًّفض تلك مقدّمة لإعلان واضح وصريح يقول بأن كل التراث السلفي، بغالبية مدارسه، وبأغلبية فقهائه ، لا يقرّ بأية صورة من الصور، بل ويتعارض إلى أقصى الحدود، مع شعارات وممارسات مايسمّى « بالسلفية الجهادية».
نحن نتكلم هنا عن قطيعة تامة وبراء ديني واضح مع كل ما تقوله وتفعله حركات « السلفية الجهادية « من جنون عنفي سادي وتلصقه بهذا الفقيه، أو بتلك المدرسة الفقهية، أو بذلك الحديث النبوي الضعيف أو المدسوس أو بفهم متخلف متزمت مجنون لهذه الآية القرآنية الكريمة أو تلك ، أو برفض لتاريخية بعض مواقف السيرة النبوية المرتبطة بإملاءات واقع تلك الأزمنة.
نحن نتكلم عن مجهود واحد مشترك، لاغمغمة فيه، تقوم به كل السلفيات الإسلامية، الرسمية وغير الرسمية ، لإبعاد نفسها وإبعاد تراثها عن القراءات الفقهية المجنونة لتلك « السلفية الجهادية « التي غرّرت بأتباعها لحرق الأخضر واليابس في كل أرض العرب ، بل وفي كثير من أجزاء العالم.
التنظيرات التي تفنّن في وضعها وتسويقها العديد من قادة التنظيمات السلفية الجهادية المعروفين هي موضوع لكتاب ، بل مجلدات، لكن هناك منطلقات وشعارات كبرى يمكن ذكرها كأمثلة تحتاج لنقدها والرد عليها من أجل خلق وعي ديني مستنير متسامح متعايش مع الديانات والثقافات الأخرى.
هناك الربط التعسّفي بين مفهوم التوحيد الذي يمثّل المنطلق الأساسي الإيماني في الدين الإسلامي وبين مفهوم الحاكمية الذي نادى به أمثال سيد قطب والمودودي. المفهوم الأخير أدّى إلى تكفير البلاد الإسلامية المحكومة بالدساتير والقوانين الوضعية، حتى وإن طبقت الشريعة، وبالتالي إلى واجب الخروج على الحكام واعتبارهم أعداء للدين. وكنتيجة منطقية هناك رفض للنظام الديمقراطي برمته.
هناك المناداة بحتمية الصراع بين أصحاب الإيمان وأصحاب الكفر، أي بالنتيجة بين الإسلام وسائر الديانات والثقافات الروحية الأخرى. ومن أجل حسم ذلك الصراع ينبغي أن يكون الجهاد العنفي هو الأسلوب الأوحد للتعامل مع غير المسلمين، أي إبقاء ديار العرب والمسلمين في حرب أبدية مع بقية العالم.
وحتى في طرح شعار الحاكمية، أي الحكم بما أنزل الله، هناك نقاط غموض في الفهم وتعسف في التطبيق. وهذا موضوع بالغ التعقيد ومليء بالتفاصيل المختلف من حولها.
وأخيراً هناك إشكالية أهم مصدر فقهي يعتمد عليه الجهاديون التكفيريون لتبرير أفعالهم، وهو تراث ابن تيمية الفقهي. فهناك ما يثبت أن كثيراً مما نادى به الفقيه المجتهد ابن تيمية قد أسيء فهمه، أو حرف، أو ابتسر من منطقه العام، أوفُّصل عن ملابساته وظروفه التاريخية وطبق بتعسُّفٍ على واقعنا العربي والإسلامي الحاضر المختلف كلياً وجذرياً عن الواقع التاريخي لزمن ابن تيمية.
هذه أربعة إشكاليات ، من بين عشرات، ستحتاج إلى نقد وإعادة فهم من أجل إقناع الشباب بالتخلي عن فهمهم السابق الخاطئ ومن أجل أن يدركوا أن الإسلام ما عاد يحتاج لأناس يموتون من أجله، وإنما أكثر ما يحتاجه هو وجود أناس يحيون من أجله.

hsalaiti@kpmg.com

زر الذهاب إلى الأعلى