قضايا ودراسات

رسائل «اجتماع البراق» في زمن الحصاد «الإسرائيلي»

د. محمد السعيد إدريس

الصراع الإقليمي المحتدم الآن، والمتجه صوب الخليج بسبب الأزمة القطرية، يمثل فرصة سانحة لم يكن أحد يتوقعها داخل الكيان الصهيوني، كي يلتف بنيامين نتنياهو على مشروع الرئيس الأمريكي للسلام الذي مازال غائماً، ومنعدم الملامح، ورغم ذلك يخشاه نتنياهو، لسبب أساسي هو أن نتنياهو «يكره التحولات، لكنه يخشى السلام أكثر من أي شيء آخر، والبرهان على ذلك واضح. فخلال السنوات الثماني من ولايته الثانية لم يعلن أي شيء من أجل الاتفاق. جميع التصريحات والخطوات التي قام بها كانت مجرد مناورات تهدف إلى تخليصه من الضغط الداخلي والخارجي، إلى أن يمر الغضب». هذه هي شهادة «جيمس شيلو» في صحيفة «هآرتس».
ورغم ذلك يحاول نتنياهو أن يناور، فهو قد أدمن المناورة والمخادعة. فهو يخادع، وحريص على أن يخادع بأن «إسرائيل» ليست طرفاً في أسباب تهديد الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، ويروج لمقولة أن الاضطراب وانعدام الأمن له أسبابه في عمق أزمات دول المنطقة التي توصف عادة بأنها «دول فاشلة»، وأنها «غير منسجمة التكوين الاجتماعي»، ومفعمة بأسباب الاضطراب العرقي، والطائفي، وله أسبابه الإقليمية وأبرزها الأطماع والتهديدات الإيرانية، والإرهاب العابر للدول. «إسرائيل» بريئة من كل الأزمات، والقضية الفلسطينية ليست محورية، بل أضحت هامشية، لذلك يجب تجاوزها، والبحث في ما هو أهم بالنسبة لمعالجة أسباب عدم الاستقرار. وهو يناور أيضاً عندما يلقي بتهمة التطرف اليميني على منافسه نفتالي بينيت، وزير التعليم، زعيم حزب «البيت اليهودي»، ويريد أن يحمله كل نتائج التشدد، وإعاقة أي محاولة لحل الأزمة، في حين أنهما يلتقيان على المعنى نفسه ل«السلام» الذي يطرحانه.
نفتالي بينيت يربط السلام ب«انعدام الحرب»، أي السلام الذي يعتمد على «القوة المتفردة»، من دون أي اعتبار لوجود «الطرف الآخر»، أو احتياجاته، ف«إسرائيل» عند بينيت هي وحدها التي يجب أن تقرر الخطوط الهيكلية للتعايش وفق احتياجاتها الديموغرافية، والأمنية، والثقافية، ومثال على ذلك اعتبار أن القدس هي «فوق المنطق وفوق السلام»، وأن «إسرائيل» هي التي تقرر حدود الحكم الذاتي للفلسطينيين. السلام سلام القوة، كما يريده بينيت، يفترض أن «إسرائيل» يجب أن تكون من القوة بحيث يضطر الطرف الآخر إلى القبول بما تمليه من شروط، ويجب على «إسرائيل» ألا تعترف بهذا الطرف الآخر، أو محاولة التوافق معه، ويرى أن السلام، «ليس إلا خطوة طرف واحد لا تعكس إلا احتياجاته».
ما يطرحه نتنياهو من أفكار حول السلام لا يختلف كثيراً عن تلك الأفكار، وربما تتجاوزها، لكن الفارق بينه وبين بينيت أنه يناور ويخادع ويتظاهر بالاستعداد للانخراط في عملية سلام، ويركز على «إجراءات بناء الثقة» من الأطراف العربية، وإعطاء أولوية للتطبيع مع هذه الأطراف سياسياً، وليس اقتصادياً فقط.
وأكبر دليل على ذلك تظاهر نتنياهو بالانخراط في مشروع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسلام، على العكس من الأطراف «الإسرائيلية» الأخرى المتوجسة والرافضة، وفي المقدمة منها بينيت، وفي الوقت نفسه نراه يذهب إلى «حائط البراق» ليعقد اجتماعاً هو الأول من نوعه لحكومته ليعطي إشارات بأن «كل المناطق من الحدود الأردنية إلى البحر هي أرض «إسرائيل»».
فقد عقد نتنياهو وأعضاء حكومته جلسة يوم 28 مايو/أيار الماضي في نفق تحت«ساحة البراق» الذي يسمونه ب«حائط المبكي» في القدس المحتلة، في إطار الاحتفال بالذكرى الخمسين لاحتلال المدينة، وضمها إلى الكيان الصهيوني. وخلال هذا الاجتماع أعلن أن حكومته ستصادق على سلسلة من القرارات التي من شأنها مواصلة تعزيز مكانة «القدس».
وفي خطابه في ذكرى مرور خمسين سنة على «حرب الأيام الستة»، لم يترك نتنياهو مكاناً للشك في أنه «مع الاتفاق، أو من دونه، سنستمر في سيطرتنا الأمنية على كل المناطق غرب الأردن». وهو بهذا يعني أنه يريد أن يستمر الجيش «الإسرائيلي»، وقوات الأمن، في إقامة الحواجز، والقيام بالاعتقالات، واقتحام مساكن الفلسطينيين تحت غطاء «الأهداف الأمنية»، وفي الوقت نفسه يريد من العالم، وبالذات من الراعي الأمريكي و«الشركاء العرب»، أن يتعاملوا معه بشكل جدي، كمن يطمح إلى «السلام الحقيقي- سلام الأجيال» على حد ما يروج دائماً.
ولإعطاء مصداقية لهذه المزاعم، فإنه كان حريصاً على التلميح بأنه مُستعد لتوسيع حكومته وضم المعارضة العمالية، وبالتحديد جماعة «المعسكر الصهيوني»، حتى لو أدى ذلك إلى استبعاد حزب «البيت اليهودي» وزعيمه بينيت، وهو هنا يريد أن يظهر للخارج استعداده للسلام، وأنه لذلك مستعد للتحالف مع المتحمسين لدعوة السلام حتى لو أدى ذلك إلى إخراج بينيت من الحكومة، لكنه يخادع في حقيقة الأمر، فهو يريد تحميل حزب العمل، وزعامته، أي انتكاسة تحدث في عملية السلام، وأن يظهر نفسه على أنه الزعيم الأوحد لليمين الذي يدافع فقط عن مصالح «إسرائيل».

msiidries@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى