رواية من داخل الـ «سي آي إيه»
تأليف: ميلفين أ. غودمان
إعداد وترجمة: نضال إبراهيم
ظهر العديد من الأصوات المعارضة لطريقة عمل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية «سي آي إيه» من داخل الوكالة نفسها، بعد أن وجدت مخالفتها الواضحة لـ«أساليب وأخلاقيات الاستخبارات» عبر تقديم معلومات مضللة إلى البيت الأبيض بشأن الأحداث العالمية الكبرى. وهذا بدوره أثّر في صورة الولايات المتحدة عبر العالم، وخلق مجتمعات سرية استخباراتية داخل مؤسسة من المفترض أنها تحترم القانون. يحاول الكاتب أن يسلط الضوء على هذا الجانب وعلى عمله في الوكالة، ودفاعه عن المبلغين عن المخالفات الاستخباراتية، داعياً إلى أهمية إصلاحها.
انتهت فجأة مهنة ميلفين غودمان كمحلل استخباراتي متخصص في العلاقات الأمريكية-السوفييتية، ضمن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية «سي آي إيه» في عام 1990. فبعد أربعة وعشرين عاماً من الخدمة، استقال غودمان عندما لم يعد قادراً على تحمل الفساد الذي شهده على أعلى مستويات الوكالة.
وفي عام 1991 توجّه إلى الجمهور، كاشفاً عن قصص كبار المسؤولين الاستخباراتيين، وقاد المعارضة ضد تعيين روبرت غيتس مديراً لوكالة المخابرات المركزية. وفي جلسات الاستماع التي عقدها مجلس الشيوخ والتي انتشرت إعلامياً على نطاق واسع، أكد غودمان أن غيتس وغيره قاموا بتخريب «أساليب وأخلاقيات الاستخبارات» عن طريق التعمد في تقديم معلومات مغلوطة إلى البيت الأبيض حول الأحداث العالمية الكبرى والعمليات السرية.
أهمية كشف الانتهاكات
يركز في كتابه على سنواته في وكالة المخابرات المركزية، وعلى العلاقة المختلة بين الرئيس والكونغرس بشأن مسائل الأمن القومي. يقول غودمان: «طالما أن الكونغرس يذعن لأوامر الرئيس فيما يتعلق بسلوك الأمن القومي، والمحاكم تتدخل لمنع أي تحدّ لسلطة الرئيس في صنع السياسة الأمنية الوطنية؛ ووسائل الإعلام تنزل عند إرادة مصادرها الرسمية والمخوّلة، فإن الأمة بحاجة إلى المبلغين عن المخالفات الاستخباراتية للتأكد من أن أفعال وكالة المخابرات المركزية قانونية وأخلاقية».
يقدّم غودمان في عمله السياق التاريخي لعمل وكالة المخابرات المركزية ووجودها؛ حيث يوضح أن وكالة المخابرات المركزية تتكون من اثنين من الفروع المتميزة ثقافياً هي: العمليات والتحليل. والغرض من العمليات هو التجسس لجمع البيانات. وفي مسألة التجسس، يقول: «إن وكالة المخابرات المركزية ليست مارقة، لكنها تنفذ أوامر الرئيس مع إنكار معقول، لذلك عندما يتم الكشف عن أنشطة وكالة الاستخبارات المركزية، يتم توجيه الغضب إلى وكالة المخابرات المركزية، وليس نحو الرئيس». ويقول إن الغرض من التحليل هو دراسة البيانات من مصادر مختلفة لتحديد قدرات الدول الأجنبية ونياتها. وينبغي أن يبقى التحليل منفصلاً عن العمليات ليكون «وسيطاً نزيهاً» في تقديم المعلومات إلى الرئيس.
ويعتقد غودمان، خاصة بعد عمله كمحلل استخباراتي في وكالة المخابرات المركزية، أن محللي المخابرات الذين يخدمون بلدهم بشكل أفضل، سوف يتجاهلون الضغوط للتوصل إلى استنتاجات إيديولوجية.
منصة لسياسة فاشلة
أنشأ الرئيس الأمريكي هاري ترومان وكالة المخابرات المركزية كمنظمة مدنية مخصصة لمواجهة التقييمات العسكرية المضخمة التي أدلى بها المحللون في وزارة الدفاع في الاتحاد السوفييتي. ولم يقصد الرئيس ترومان أبداً أن تكون وكالة المخابرات المركزية تحت سيطرة وزارة الدفاع أو أن تكون وكالة تجسس. وضد نية ترومان، أصبحت الوكالة على مر السنين وكالة تجسس بشكل فعلي، بقيادة مدير المخابرات الوطنية التي هي قسم من وزارة الدفاع، وأصبحت منظمة توفر تحليلات الأمن القومي المدفوعة أيديولوجياً.
يتحدث غودمان عن عمله لمدة ثلاث سنوات في الجيش الأمريكي ككاتب شيفرات، وعامين في اليونان كجزء من مهمة عسكرية أمريكية، كما كان حاضراً خلال أزمة السويس عام 1956. وكان وراء الكواليس في الغزو الأمريكي للبنان في عام 1958. وكان يعمل لدى وزارة الخارجية في مكتب أبحاث الاستخبارات في الفترة من 1974 إلى 1976؛ حيث أمضى صيف 1976 في العمل لصالح السفارة الأمريكية في موسكو.
ويشير غودمان إلى أن وكالة المخابرات المركزية جيدة في تحديد القدرات، لكنها فقيرة في تمييز النيات. ويصف ما يدور في الموجز اليومي للرئيس. ويعتقد أن المعلومات الاستخباراتية التي تقدمها وكالة المخابرات المركزية ستكون مفيدة في أي ساحة للتفاوض، في حال كانت بمثابة مصدر مستقل للمعلومات من وزارة الخارجية أو وزارة الدفاع.
كما يتوقف عند فترة عمله كمحلل لوكالة المخابرات المركزية خلال حرب فيتنام، مشيراً إلى أنه حضر مسيرات معادية للحرب، موضحاً أنه كان هناك عدد من المحللين في وكالة المخابرات المركزية الذين كانوا مناهضين للحرب. ويقول إن وزير الدفاع روبرت ماكنمارا حينها كذب على الرئيس جونسون فيما يتعلق بمعلومات المخابرات المركزية الأمريكية عن طريق إخفاء التقارير التي تفيد بأنه لا يمكن لهم الفوز في الحرب. قائلاً: «أصبحت وكالة المخابرات المركزية تشكل منصة لسياسة أمريكية فاشلة». كما يبين غودمان أنه كان موجوداً في أول محادثات للحد من الأسلحة الاستراتيجية (سالت) تحت رئاسة نيكسون. وكان دور وكالة المخابرات المركزية هو التحقق المسبق قبل توقيع المعاهدة، وهذا ما كان مطلوباً قبل تصويت مجلس الشيوخ. ويدّعي غودمان أن وزارة الدفاع لم تكن تريد معاهدة أسلحة مع الاتحاد السوفييتي، وكذبت على الرئيس حول القدرات السوفييتية.
كما يتضمن الكتاب فصلاً عن شهادة غودمان بشأن روبرت غيتس الذي رشح لمنصب مدير وكالة المخابرات المركزية من قبل الرئيس جورج بوش الأب في عام 1991. ويشير غودمان إلى تكلفة الكشف عن الفساد «لا توجد حماية للمبلغين عن المخالفات في مجتمع الاستخبارات، ويواجه ضباط الاستخبارات فقداناً محتملاً للتصريح الأمني من أجل الذهاب إلى الجمهور فيما يتعلق بالإساءات». وبالنسبة إلى العاملين في وكالة المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي، فقدان التصريح الأمني يعادل إطلاق النار.
جهود أوباما
يتحدث الكاتب عن جهود أوباما في إضعاف دور المفتش العام في ساحة الأمن القومي، إذ إنها عقّدت عمل إصلاح مجتمع الاستخبارات بشكل عام، وبشكل خاص عمل وكالة المخابرات المركزية. ويقول: «واحدة من الإصلاحات الأكثر أهمية في فترة فضيحة ووترغيت كان تمرير قانون المفتش العام في 1978، وبعد فضيحة إيران – كونترا، أخيراً أنشأ الكونغرس منصب مفتش عام قانوني لأجل «سي آي إيه». أضعف أوباما بوعي وإدراك دور هذه المراقبات الداخلية والتي تعني أنها أصبحت أكثر صعوبة في ضمان تلاحم وكفاءة العمليات الحكومية. وتأكدت هيلاري كلينتون أنه لم يكن هناك مفتش عام بشكل ثابت خلال إدارة وزارة الخارجية من 2009 إلى 2012، كما تأكد الرئيس أوباما أنه ما من مفتش عام بشكل ثابت في وكالة المخابرات المركزية خلال معظم فترة ولايتيه الرئاسيتين».
ويضيف الكاتب: «هناك مشكلة أساسية في التعامل مع أي وكالة استخباراتية في ظل الديمقراطية. فقانون الأمن القومي لعام 1947 الذي أسس وكالة المخابرات المركزية كان ببساطة غامضاً جداً في تحديد أهداف ومهمات الوكالة، وتأسست كل من وكالة الأمن القومي ومكتب الاستطلاع الوطني في جو من السرية، ما كان أمراً خاطئاً، وأعطيت وكالة المخابرات المركزية الكثير من القوة والنفوذ، مع القليل جداً من المعايير والقيود المتعلقة بما إذا كانت عمليات أو جمع معلومات».
ويرى أن هناك مشكلة واضحة في الذهنية المهيمنة على البيت الأبيض فيما يتعلق بأي آراء توحي بعلامات احتجاج داخلي، إذ يتم اعتبار الأمر تهديداً على الأمن القومي. وهذا قاد إلى انتهاكات في فترة حرب فيتنام في الستينات والسبعينات وإلى عسكرة المجتمع الأمريكي منذ 11 سبتمبر 2001. مضيفاً: «وكالة المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي تفادتا العديد من حالات المنع الداخلية المفروضة على جمع المعلومات من خلال إجراء ارتباطات غير قانونية مع وكالة استخباراتية أجنبية مثل مكتب الاتصالات الحكومية البريطانية. تعاون كل من البيت الأبيض و«سي آي إيه» في العقد الماضي لإضعاف المراقبة الداخلية من خلال تجاهل مكتب المفتش العام». ويوضح أنه كنتيجة لذلك، من الصعب التحكم أو حتى معاينة عمل الوكالات السرية، وخلال السنوات الستين الماضية، أساء الرؤساء الأمريكيون استخدامها. كما أن غياب المراقبة يجعل من الصعب فرض قيود على سوء استخدام القوة الحكومية، خاصة تلك القوى التي تهدّد المواطنين، من دون المعلومات التي يقدمها المبلغون عن المخالفات الأمنية. قائلاً: «إن عمل وكالة المخابرات المركزية وانتهاجها السرية مع اللجان المسؤولة عن مراقبة الوكالة نفسها عمل معادٍ للديمقراطية»، مضيفاً: «المبلغون عن المخالفات المخابراتية يتحدون السرية والأكاذيب التي تحتضن الجهل في الولايات المتحدة. والإفراط في السرية يحدد النقاشات حول السياسة الخارجية ويجرّد المواطنين من المعلومات المطلوبة للمشاركة في إبداء آرائهم في قضايا أساسية متعلقة بالحياة والموت، هناك حاجة إلى ثقافة الانفتاح والاحترام لأجل خلق توازن في القوى لتغيير اتجاه الضرر الذي تسببت به الاستجابة الكارثية لإدارة بوش لأحداث 11 سبتمبر 2001».
دعوة إلى الإصلاح
من المحتمل أن أوباما نفسه ندم لأنه لم يفعل المزيد لأجل دعم المبلغين عن المخالفات داخل الجهاز الاستخباراتي بحسب ما يرى الكاتب، مشيراً إلى أنه «خلال شهوره الأخيرة من ولايته الثانية، كشف النقاب عن وثائق رسمية تقرّ أن «سي آي إيه» كانت تعرف أن الديكتاتور التشيلي السابق أوغستو بينوشيه قد أمر شخصياً بإعدام معارض بارز في حي السفارات بواشنطن، وأن الولايات المتحدة لعبت دوراً في «الحرب القذرة» التي شنتها حكومة الأرجنتين ضد مواطنيها في سنوات السبعينات والثمانينات. ولقي الرئيس أوباما الثناء لمحاولته الفوز بأصدقاء من أمريكا الجنوبية من خلال الكشف عن الأعمال الشريرة الماضية، أفضّل أن أقول إن الرئيس أوباما أدرك أهمية التبليغ عن المخالفات التي تجري داخل سلك الاستخبارات».
يقدّم غودمان في هذا العمل الصادر، باللغة الإنجليزية في 300 صفحة، عن دار «سيتي لايتس بابليشرز»، عرضاً نادراً عن الأعمال الداخلية لمجتمع الاستخبارات الأمريكي، والفساد والترهيب والتضليل الذي يؤدي إلى تدخلات أجنبية كارثية.
والكتاب يتمتع بأهمية كبيرة تاريخية داخل واحدة من الوكالات الاستخباراتية الأكثر سرية وتأثيراً لحكومات الولايات المتحدة، وهو بشكل فعلي دعوة إيقاظ كبرى لضرورة إصلاح ممارساتها، حتى أنه نفسه يقول في خاتمة العمل: «أِشعر بالندم لأنني لم أفعل المزيد في عام 1991 لأجل الدفاع عن احتجاجاتي وتوضيحها، تمنيت لو أنني مضيت أبعد من ذلك في التبليغ عن المخالفات الأمنية، أنا معجب بإدوارد سنودن لمخاطرته بكل شيء للكشف عن أضخم عملية تجسس غير دستورية على المواطنين الأمريكيين، وكذلك معجب بتوماس دريك للتبليغ عن المراقبة غير القانونية»، قائلاً في النهاية: «طالما أن القيادات الاستخباراتية مستمرة في الكذب والتضليل بشأن الأعمال غير القانونية التي تنتهجها، ستبقى الوكالة عدواً للديمقراطية وسوف أستمر في شق طريقي بالمعارضة».
يأتي الكتاب بعد مقدمة بعنوان: «الطريق إلى المعارضة» في عشر أقسام هي: 1) الانضمام إلى وكالة المخابرات المركزية. 2) متعة الاستخبارات. 3) مغادرة وكالة المخابرات المركزية. 4) هبوط في رقعة بريار. 5) الصراع مع لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ. 6) المعايير المزدوجة والمعاملة المزدوجة لوكالة المخابرات المركزية. 7) مديرو وكالة المخابرات المركزية والمعارضة. 8) غودمان ضد غيتس. 9) الصحافة والمبلغون. 10) الاستنتاجات: الحفاظ على طريق المعارضة.
نبذة عن الكاتب:
بدأت مهنة غودمان في المخابرات في الجيش الأمريكي؛ حيث كان يعمل كاتب شيفرات سرية. ثم عمل كمحلل في وكالة المخابرات المركزية، من 1966 إلى 1974. وفي عام 1974 انتقل إلى مكتب الاستخبارات والبحوث؛ حيث أمضى عامين كبيراً للمحللين. وعاد إلى وكالة الاستخبارات المركزية في عام 1976، ليعمل رئيس شعبة وكبير المحللين في مكتب الشؤون السوفييتية حتى مغادرته في عام 1986. كما عمل مستشاراً للاستخبارات في محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية. وحاضر في كلية الحرب الوطنية كأستاذ للأمن الدولي، من 1986 حتى 2004.
يعمل حالياً أستاذاً مساعداً في جامعة جونز هوبكنز، وزميلاً أول في مركز السياسة الدولية. ظهرت كتابات غودمان في صحيفة «نيويورك تايمز»، و«واشنطن بوست»، و«هاربر»، وغيرها من المنشورات الصحفية. وهو مؤلف لستة كتب عن المخابرات الأمريكية والأمن الدولي.