قضايا ودراسات

روايتنا.. مدينتنا

يتذكّر النقّاد والكتّاب العبارة الشهيرة لجورج لوكاش التي يصف فيها الرواية بأنها «ملحمة البرجوازية» في تمييز مقصود عن الملحمة كفن سابق للرواية ولنشوء البرجوازية نفسها. والمقصود بالطبع هنا البرجوازية الأوروبية التي كانت الرافعة الاجتماعية للحداثة والعقلانية والتصنيع في مواجهة المجتمع الإقطاعي الأبوي الخاضع لسلطة الكنيسة.
والبرجوازية هي ظاهرة مدينية بامتياز، نشأت في المدينة، وفي أحيان معينة أنشأت المدينة الحديثة. ومع الفروق الكثيرة بين انبثاق الرواية الأوروبية والرواية في العالم العربي، لكن روايتنا أيضاً وجدت في المدينة فضاءها الواسع الذي تحرّكت فيه وتنفّست هواءه.
لا يمكن معرفة القاهرة كمدينة متعددة المستويات والطبقات و«العوالم» والمناخات دون قراءة روايات نجيب محفوظ، حيث كانت الحارة الشعبية المصرية هي البيئة التي كوّنت فضاءاتها، هو الذي اشتغل روائياً على هذه المدينة، أفقياً وعمودياً حتى قدم القاهرة المتحوّلة في حراكها الاجتماعي – السياسي العاصف في مراحل مختلفة.
وما يقال عن نجيب محفوظ يمكن أن يقال عن روائيين مصريين عرب آخرين في تقصّيهم الإبداعي لتحوّلات مجتمعاتهم من خلال «عوالم» مدنهم: إحسان عبد القدوس في مصر، وهو يتابع تحوّلات قيم الطبقة الوسطى، حنّا مينه، وهو يرصد المدينة السورية في ظل ما شهده المجتمع السوري من تحوّلات، إميل حبيبي، وهو يكتب الملحمة الفلسطينية من خلال الفلسطينيين الذين اختاروا البقاء في أراضي عام 1948 كأنهم «مليون مستحيل». غائب طعمة فرمان، وهو يعيد تشكيل بغداد من خلال المنفى الذي يحيل المدينة ذاتها إلى ذاكرة. سهيل إدريس ومحمد عتياني، وهما يرسمان صورة بيروت قبل أن تعصف بها الحرب الأهلية، وإلياس خوري، وهو يراها خلال وبعد الحرب. محمد شكري من المغرب، وهو يرجم مدن الخراب والضياع والخيبة، عبد الرحمن منيف، وهو يدين في «شرق المتوسط» المدن التي تنتج آليات القمع والتعذيب وانتهاك حقوق الإنسان، أو يرصد في «مدن الملح» نشوء المدينة النفطية العربية.
غير هذه الأسماء هناك عشرات الروائيين العرب الكبار ومن مختلف الأجيال، والذين لا تتسع مساحة صغيرة كهذه حتى لمجرد ذكر أسمائهم، الذين غاصوا في أعماق المدينة العربية المأزومة أصلاً والتي تزداد تأزماً مع تمددها العشوائي، حتى باتت قرى كبيرة وليست مدناً منتجة للحداثة والتنظيم والفنون والأفكار.
تسعفنا الرواية، أكثر الأجناس الأدبية انتعاشاً وانتشاراً اليوم، في التعرف إلى تحوّلات المدينة العربية، لتمزقاتها، ولأزمتها الحقيقية التي هي في صلب أزمة المجتمعات العربية الحائرة في البحث عن نفسها، وهي مثقلة بأعباء حداثة مجهضة منكوبة، وتعلق بأوهام تنشد الخلاص في حلول آتية من خارج زمننا، فلا نحصد، والحال كذلك، إلا المزيد من الضياع والتيه.
د. حسن مدن
madanbahrain@gmail.comOriginal Article

زر الذهاب إلى الأعلى