قضايا ودراسات

روسيا وسياسة الهروب إلى الأمام

حسام ميرو
مدّد الاتحاد الأوروبي العقوبات المفروضة على روسيا، في الثامن والعشرين من يونيو/ حزيران الماضي، لمدة ستة أشهر أخرى، وهي العقوبات التي كان الاتحاد الأوروبي قد فرضها بعد التدخل الروسي في أوكرانيا، وتشمل عدداً من القطاعات، مثل المصارف، والطاقة، والتكنولوجيا، لكن واقع الحال يقول إن صنّاع القرار في موسكو قادرون على التكيّف مع تلك العقوبات، ليس لكونها عديمة الأثر في الاقتصاد الروسي، بل لكون السياسة الروسية خلال العقد الأخير منحت القوة الصلبة مكانة أهم من القوة الناعمة، وهو ما برز من خلال ملفات عدة، أهمها الملفّان الأوكراني والسوري، حيث عادت روسيا إلى استخدام القوة العسكرية لتحقيق سياساتها الخارجية، على حساب الاقتصاد والعمل الدبلوماسي.
ومع تبلور نمط شمولي جديد في روسيا، ابتعدت موسكو عن الخيار الأوروبي بشكلٍ واضح، وهو الخيار الذي يفرض معه جملة من المعايير السياسية والحقوقية والاقتصادية، ويفرض على موسكو بالضرورة الاهتمام بالداخل بشكلٍ رئيسي، وهو الخيار الذي طالما رفضته موسكو بشدّة، بل عملت ضده، لأنه سيوسّع من دائرة المشاركة السياسية في نظام الحكم، ويقلّص نفوذ النخب القديمة، لمصلحة أحزاب وقوى سياسية واقتصادية واجتماعية.
تعاني روسيا مشكلات كبيرة في عدد من القطاعات الكبرى، وأهمها قطاع التكنولوجيا، وهو القطاع الذي لم تستطع روسيا أن تنافس فيه القوى الرئيسية، مثل الولايات المتحدة، والصين، وألمانيا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وأصبحت تقريباً خارج دائرة المنافسة في هذا المجال، كما أنها لم تتمكّن من المنافسة في القطاع الأكثر هيمنة اليوم على اقتصاد العالم، وهو قطاع المعلومات، وهو ما يفقد روسيا القدرة على اختراق الأسواق، ويضاف إلى ذلك تأخر القطاع المصرفي الروسي، وعدم قدرته على ولوج السوق العولمية لقطاع المال، وما يتفرّع عنه من شراكات وأعمال مع قطاعات أخرى، وبالتالي فإن روسيا تبدو اليوم بعيدة كل البعد عن دائرة التأثير والاستفادة من أكبر ثلاثة قطاعات، أي التكنولوجيا، والمعلومات، والمال.
وبحسب مكتب الإحصاء «روستات» للسنوات الثلاث الأخيرة، فإن حوالي 20 مليون روسي يعيشون تحت عتبة خط الفقر، وهو أعلى معدل خلال العقد الأخير، وقد عزا «روستات» سبب هذا التدهور في معيشة السكان إلى انخفاض أسعار النفط، وتأثير العقوبات الغربية، بعد الأزمة الأوكرانية، وهو ما يشير بشكل واضح إلى أن حالة الانتعاش التي عرفتها روسيا في بداية الألفية الثالثة كانت بسبب الريع النفطي، وهو الريع الذي لم تستفد منه في عملية إعادة الاقتصاد، ليكون قادراً على تلبية احتياجات التنافسية في الأسواق العالمية، كما أن الاستراتيجيات الروسية لم تأخذ بالحسبان نمو الفوائض النفطية في العالم، وتعدّد المصادر، والحاجة إلى بناء صناديق سيادية قوية.
وعلى الرغم من كل الإخفاقات الاقتصادية للنظام السياسي إلا أن المؤشرات المتعلقة بالانتخابات المقبلة، في مارس 2018، تصبّ في مصلحة الرئيس بوتين، وهو أمر يبدو بديهياً، فقد عمل النظام السياسي على منع تطوّر الحياة السياسية، واحتكار الفضاء الإعلامي.
لم تتمكن روسيا، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، من إدراك المعطيات الجديدة التي فرضتها العولمة، والطرق الجديدة لتقسيم العمل الدولي، والحاجة الماسّة إلى استخدام الحوكمة في بناء نظمها الإدارية والاقتصادية، وإعادة النظر بعلاقة الدولة بالمجتمع، وعلاقة النظام السياسي بالدولة، والحاجة إلى تحرير الفضاء العام من هيمنة النظام السياسي والنخب الحاكمة، وبناء نظام سياسي جديد يتيح أكبر قدر ممكن من المشاركة وتحمّل المسؤولية، وعاندت المعطى الأوروبي المتمثل ببناء منظومات حقوقية ومعايير ملزمة للعملية السياسية، وحقوق الأفراد، محاولة الاتكاء على تغذية الشعور القومي، الذي ينتمي إلى القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، مع فارق جوهري يتمثّل في تغيّر معطيات النظام الدولي.
لقد سعت موسكو من خلال ملفي أوكرانيا وسوريا إلى استعادة هيبتها العالمية، وتحسين موقعها في النظام الدولي، والضغط على أوروبا، عبر سياسة خلط الأوراق، ومحاولة ملء الفراغ في الشرق الأوسط، لكن من دون أن تكون واضحة الكيفية التي يمكن لها أن تعكس فيها هذه السياسات على شكل مصالح استراتيجية، والاستفادة منها في تعزيز قدراتها التنافسية في العالم، في ظل نظام عولمي يحتاج إلى بنى اقتصادية من طبيعة مغايرة لطبيعة النظام الاقتصادي الروسي، وهو ما يجعل من تفسير سياساتها كشكل من أشكال الهروب إلى الأمام، هو السبب الأكثر ترجيحاً، فعندما لا تستطيع النظم السياسية اكتساب شرعيتها من التصدي لأزمات الداخل، فإن الطريق الأسهل لاكتساب تلك الشرعية هو هروبها نحو الخارج.

husammiro@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى