سطو إسلاميين على وزير المستعمرات الفرنسية!
علي العميم
قد يقول قائل: كيف عرفت أن محمد قطب وتلميذه سفر الحوالي يعلمان أن اسم مؤلف كتاب «قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام، أبيدوا أهله» هو اسم مستعار؟
أجيب عن هذا السؤال، فأقول: محمد قطب يعلم أن «العالم»، اسم مصري. وهو يعرف – بشكل مؤكد – اثنين في مصر يحملان هذا الاسم. هما: الشيوعي محمود أمين العالم، والإسلامي القطبي مصطفى العالم الذي استعار عبد الودود بسام يوسف صاحب الكتاب اسمه الأخير منه.
استعارة عبد الودود بسام اسم «العالم» أفادته من ناحيتين: الأولى، أن هذا الاسم هو اسم يحمله مفكر وناقد أدبي شيوعي ذائع الصيت وكتبه رائجة عند القراء العرب من تياره ومن غير تياره. وإلى الآن لا يحمل مؤلف اسم «العالم» سوى محمود أمين العالم، وصاحب كتاب «قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله» جلال العالم. الثانية، أن الاستخبارات السورية، التي كان عبد الودود بسام يوسف في السبعينات الميلادية منهمكاً في نشاط سياسي معارض لنظامها السياسي، ستعتقد أنه إسلامي مصري.
أما لماذا استعار عبد الودود بسام يوسف اسمه من مصطفى العالم، رغم أنه من مناكير «الإخوان المسلمين»، وليس من مشاهيرهم؟
الجواب: هو أن لهذا الرجل عند «الإخوان المسلمين» القطبيين السوريين المنخرطين في الدعوة إلى الكفاح المسلح ضد النظام السياسي السوري، منزلة دينية ونضالية مرموقة، لأنه عاش مع «حبر» الإخوان المسلمين الأعظم سيد في زنزانة واحدة فترة ستة أشهر عام 1954.
محمد قطب يعرفه شخصياً لهذا السبب، ولسبب آخر وهو أنه كان زميلاً له في تنظيم 1965، الذي كان يقوده أخوه ومعلمه، سيد قطب. وعضوية مصطفى العالم في هذا التنظيم عززت مكانته الدينية والنضالية عند القطبيين السوريين.
مصطفى العالم كان فر إلى السعودية قبل أن تقبض عليه السلطات المصرية. ولما وفد محمد قطب إلى السعودية بعد الإفراج عنه عام 1971، للعمل مدرساً في كلية الشريعة بمكة التابعة وقتها لجامعة الملك عبد العزيز، من المؤكد أن مصطفى العالم الذي كان مقيماً في جدة ويعمل مفتشاً في وزارة المعارف، كان يلتقي بمحمد قطب لحافز عاطفي، لأنه – بالتعبير المصري – «من ريحة الحبايب».
وأظن أن عبد الودود بسام يوسف فكر في استعارة اسم مصطفى العالم، بعد أن قرأ مقال الأخير عن سيد قطب الذي كان له صدى عند الكتاب الإسلاميين في أول السبعينات الميلادية.
هذا المقال نشر في مجلة «الشهاب» الإخوانية التي تصدر في بيروت، بتاريخ 1 سبتمبر (أيلول) 1972، وعنوانه الكامل «شهيد الفكر الإسلامي، سيد قطب في ذكراه السادسة» (29 أغسطس/ آب 1966). وقد أفردت المجلة له صفحتين مع مقدمة احتفائية.
نعود إلى ما كنا فيه، وهو تواطؤ الأستاذ محمد قطب مع تلميذه سفر الحوالي على الإحالة إلى كتاب، بما يخالف ضوابط النقل العلمي من وجوه ثلاثة، لمعرفة أسباب تصرفهما هذا.
السبب الأول أن الأستاذ والتلميذ كانا مغرمين روحياً بكتاب «قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله»، وهذا سبب عاطفي. والسبب الثاني، أن هذا الكتاب يمثل عصب الرسالة (العلمانية: نشأتها وتطورها وآثارها على الحياة الإسلامية المعاصرة) وزبدتها وخلاصتها، وهذا عندهما سبب منهجي. والسبب الثالث، الأستاذ والتلميذ يعلمان أن الكتاب، لا يحتاج إلى ترويج فهو في تلك الفترة في غاية الرواج، وإنما تنقصه التزكية الأكاديمية، وقد فعلا ذلك.
كما نقل سفر الحوالي في رسالته (العلمانية: نشأتها وتطورها وآثارها على الحياة الإسلامية المعاصرة) من كتاب جلال العالم نصاً آخر، مهد له بهذا الكلام: «الحروب الصليبية التي كان قوامها مجموعات من الأوباش والهمج كانت خطتها عسكرية بحتة وهدفها تدمير الكيان الإسلامي بالقوة. والحروب الصليبية الاستعمارية كانت خطتها تقوم على هدف القضاء على الإسلام، ولكن بواسطة احتلال أراضيه احتلالاً مباشراً، والمستشرق كيمون الذي كان يفكر بعقلية الحروب الصليبية يضع للعالم الغربي خطة لتدمير الإسلام يقول فيها:
أعتقد أن من الواجب إبادة خمس المسلمين والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة… إلخ».
هذا القول وقول آخر وأقوال أخرى لا ضرورة لذكرها، بدأ الإسلاميون يستشهدون بهما ابتداء من أول السبعينات الميلادية من دون العزو إلى المصدر الأول، الذي ذُكر فيه قولاه اللذان ينضحان بالعداء للإسلام وللمسلمين، ومن دون الرجوع إلى كتابه الذي نقل المصدر الأول عنها قوليه.
يختلف جلال العالم عن بقية الإسلاميين في أنه أحال في إيراد قولي كيمون إلى أربعة مصادر متقدمة هي – حسب ترتيب إيراده لها: («الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» لمحمد محمد حسين، و«تاريخ الإمام ج2» لرشيد رضا، و«الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» لمحمد البهي، و«القومية والغزو الفكري» لجلال كشك).
المصدر الأول في هذه المصادر الأربعة هو الجزء الثاني من كتاب رشيد رضا «تاريخ الأستاذ الإمام» الذي صدر في طبعته الأولى عام 1931، فمحمد محمد حسين ومحمد البهي نقلا عنه، وجلال كشك نقل عن كتاب الأول. وكان يجب على جلال العالم أن يكتفي بالإحالة إلى المصدر الأول، لكنه أراد أن يوهم قارئه بأنه أمام مصادر متعددة وليس أمام مصدر واحد.
يختلف محمد محمد حسين عن محمد البهي أنه نقل من المصدر الأول نقلاً وافياً، ولم يورد هذا النقل بطريقة مبتورة.
لاحظت أن الإسلاميين الذين يأتون بقول من قوليه أو بالقولين معاً، يذكرون اسمه الأخير (كيمون) ولا يذكرون اسمه الأول (دانييل)، ويذكرون اسم الكتاب الذي قال فيه قوليه، وهو كتاب «باثولوجيا الإسلام»، وبعضهم حين يستشهد به يلحق باسمه الأخير لقب «المسيو»!
سيدهش القارئ عندما أقف به على سر محدودية معلومات الإسلاميين عن دانييل كيمون.
السر يكمن في المصدر الأول الذي أخذ المتقصون منهم المعلومات منه باجتزاء متعمد.
في الفصل الخامس من كتاب رشيد رضا «تاريخ الأستاذ الإمام ج2» ترجمة لمقال هانوتو وزير الخارجية الفرنسية أو وزير المستعمرات الفرنسية «الإسلام والمسألة الإسلامية» المنشور في جريدة «الجورنال» الفرنسية. وهذه الترجمة نشرت في الأصل في جريدة «المؤيد» المصرية في عددين منها عام 1900.
بعد ترجمة مقال هانوتو إلى اللغة العربية نشأ بينه وبين محمد عبده سجال شهير. وهذا السجال منشور في ذلك الفصل المومأ إليه، وفي كتاب مستقل هو كتاب «الإسلام بين العلم والمدنية» طبع عام 1923.
مصدر معلومات الإسلاميين عن كيمون هو هانوتو وليس محمد عبده. والمتقصون منهم لا يشيرون إلى أن معلوماتهم المحدودة عن كيمون، مصدرها هو هانوتو!
يقول هانوتو في مقاله المشار إليه آنفاً: «قصر فريق منا بحثه وحكمه على ما شاهده من المناقضات والخلافات بين الدينين المسيحي والإسلامي. فرأى في الإسلام العدو الألد والخصم الأشد». ويعلق هانوتو على هذا الرأي، فيقول: «أمثال هذا الكاتب يعتقدون أن المسلمين وحوش ضارية وحيوانات مفترسة (كالفهد والضبع كما يقول المسيو كيمون) وأن الواجب إبادة خمسهم (كما يقول أيضاً)، والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة، وما إلى ذلك.
ويقول: وهو حل بسيط وفيه مصلحة الجنس البشري… أليس كذلك؟ ولكن قد برح عن خاطر الكاتب أنه يوجد نحو 130 مليون مسلم، وأن من الجائز أن يهب هؤلاء (المجانين) للدفاع عن أنفسهم والذود عن بيضة دينهم».
الفريق الثاني، قال هانوتو عنه: «ويذهب غير أصحاب هذا الرأي إلى أن الإسلام دين ومدنية يتصلان مع ديننا ومدنيتنا بعروة الإخاء والتصاحب، وتطرف البعض منهم فاعتبروا الإسلام أرقى مبدأ وأسمى كعباً من الدين المسيحي. قال المسيو لوزون (القس يا سنت سابقاً):… ويذهب قوم غير الذين سبقت الإشارة إليهم إلى وجوب احترام الإسلام وتبجيله، مستندين في ذلك إلى ما دونه أحد مؤرخي الكنيسة الذي صار فيما بعد كاردينالاً حيث قال:… هذان هما الرأيان السائدان بما بينهما في درجات الاعتدال والتلطف والمسالمة».
وبعد أن ذكر أن كل فرد من أفراد موظفيهم أو وكلائهم أو أبنائهم المستعمرين قد حار بين هذين الرأيين، أشار إلى أنه يوجد بأحدهما المتطرفون وبالآخر المتعصبون، ولا وسط بينهما.
بتاريخ 12 مايو (أيار) 1971 أقدم شوقي أبو خليل في مقدمة الطبعة الأولى لكتابه «الإسلام في قفص الاتهام» على السطو على توصيف هانوتو لرأي المثقفين الفرنسيين في الإسلام، وجعله توصيفاً للمستشرقين كافة، الذين صنفهم في أنواع ثلاثة. وضم إلى النوع الأول (جاحدون متعصبون) كيمون، وذكر ما قاله عن الإسلام في كتابه «باثولوجيا الإسلام» وسطاً على جزء من تعليق هانوتو على كلامه ونسبه إلى نفسه!
كان من ضمن ما قاله محمد عبده في رده الأول على هانوتو: أنه «حدث في الدين بدع أكلت الفضائل، وحصدت العقائد وترامت بالناس إلى حيث يصب عليهم ما استفرغه كيمون… يرى ويستحسن رأيه هانوتو، لولا ما يقف في طريق ذلك من كثرة عدد المسلمين، وبئس ما اختارا لسياسة بلدهما أن يظهرا ضغنهما ويعلنا خطل رأيهما وضعف حلمهما».
أحرج هانوتو بعد رد محمد عبده الأول عليه، وللدفاع عن نفسه اتهم ترجمة جريدة «المؤيد» بأنها خلاصة فاسدة من الفصلين اللذين كتبهما عن الإسلام، وقال: «ولعل القراء يذكرون أنني أوردت فيهما آراء كيمون التي أبداها في كتابه (باثولوجيا الإسلام)، وإن إيرادي لها كان على سبيل الحكاية والنقل… ولكيلا يختلط على الذهن شيء من أقوال كيمون التي أوردتها، وضعت في آخر كل عبارة من عباراته كلمتي (أنا أنقل) محصورتين بين قوسين دفعاً للالتباس ومنعاً للشك… رغم هذه الاحتياطات نسبت إلى تلك الأفكار التي عمدت إلى دحضها وإظهار فسادها حتى أن أحد كبار أئمة الدين الإسلامي كلف نفسه مؤونة الإجابة في جريدة (المؤيد) على أفكار ليست أفكاري، بل هي نقيض ما ذهبت إلى تعضيده واستحسانه في بحثي، ولذلك أرى أن ذلك الإمام العظيم صار في بحثه أشبه بمن يدفع باباً مفتوحاً من ذاته، سواء قرأ ما سطرته في الأصل الفرنسي، أو وقف عليه من الترجمة. إما أنه لم يفهم مرادي وإما أن الترجمة كانت فاسدة لم تتوافر فيها شروط الأمانة».
وللدفاع عن نفسه وعن فرنسا الاستعمارية، قال هانوتو في حديث أجراه معه بشارة تقلا في جريدة «الأهرام» في يوليو (تموز) 1900: «وأنا لم أكتب إلا إلى أبناء وطني الفرنسيين، ولم أستشهد بكيمون، وهو يوناني الجنس، إلا لأفند أقواله التي لم ينفرد بها، فإن كثيراً من الكتاب الألمانيين والفرنسيين والإنجليز وغيرهم حذو حذوه، وقالوا قوله».
قول هانوتو عن كيمون، إنه يوناني الجنس، هي معلومة غير دقيقة، وإنما قالها للدفاع عن نفسه وعن فرنسا، فدانييل كيمون هو اسم مستعار واسمه الحقيقي غير معروف. والرجل فرنسي كاثوليكي وليس يونانياً أرثوذكسياً.
وقد استند هانوتو في معلومته غير الدقيقة إلى اسم دانييل الأخير. فاسم كيمون مأخوذ من لفظة أغريقية هي نوكيموس، التي تعني الناموس الكوني.
ولد هذا الرجل عام 1860، وهو صحافي وكاتب فرنسي، متخصص في القانون واللغة الإغريقية. وعنوان كتابه الكامل هو «باثولوجيا الإسلام ووسائل تدميره»، طبعته الأولى كانت عام 1897.
في هذا الكتاب، الذي يعني عنوانه باللغة العربية «التشخيص المَرَضي للإسلام» دعا إلى ضرورة تدمير الإسلام من خلال إبادة ما نسبته واحد من عشرين من سكان العالم من المسلمين، وإخضاع الباقين منهم إلى نظام شبه استعبادي حتى يضطروا في النهاية إلى اعتناق الكاثولوكية.
عرف كيمون بمعاداة السامية، فهو يكره كراهية شديدة اليهودية واليهود بالدرجة نفسها التي يكره فيها الإسلام والمسلمين. فله كتاب ثانٍ اسمه «الحرب على اليهود». ولقد فسر محتوى اللوحة الشهيرة (القديس مايكل يطعن الشيطان) بأنها تعني الحرب ضد اليهود.
إن الإسلاميين حتى لو علموا بهذه المعلومة، فإنهم حتماً سيتجاهلونها، لعدائهم المَرَضِي لليهود، ولأنهم يرفضون إدانة معادة السامية (أو اليهود) في الغرب، ويؤمنون أن اليهود شركاء مع المسيحيين في المؤامرة على الإسلام!
فالإسلاميون يدركون أن اعترافهم بقضية معاداة السامية في الغرب، سيخلخل أنموذجهم التفسيري للغرب. فعلى سبيل المثال، سفر الحوالي في رسالته عن العلمانية، يرجم بأن اليهود استغلوا الثورة الفرنسية والدارونية والثورة الصناعية والديمقراطية، لمآرب شريرة!
هذه المآرب الشريرة يعللها اعتقاده بأن اليهود «قوى هدامة».
وقد لا يعرف المتأثر بأطروحات الكتاب الإسلامي أن هذه النظرية ما هي إلا محض خرافات مسيحية غربية، كاثولوكية وأرثوذكسية، حول اليهود. وللحديث بقية.
* نقلا عن “الشرق الأوسط“