جديد الكتب

«سي آي إيه» تتآمر على البشر!

تأليف: ديفيد إتش برايس

عرض وترجمة: نضال إبراهيم

استخدمت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية طوال الحرب الباردة (1947-1991) العلوم الاجتماعية في سبيل تحقيق أهدافها، فكان للعديد من العلماء مساهمة في إراقة الدماء والتسبب في معاناة شعوب بريئة. يلقي هذا الكتاب الضوء على العلاقة بين علماء الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) والمخابرات الأمريكية والبنتاغون وكيفية الاستخدام المزدوج للمشاريع البحثية الصادرة عن العلماء والمتخصصين في هذا الحقل طوال الحرب الباردة.
يتطرق هذا العمل البحثي إلى العلاقات السرية والعلنية بين وكالات الجيش / المخابرات وعلماء الأنثروبولوجيا في الولايات المتحدة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى حرب فيتنام. ويبدأ الكاتب عمله بمقولة لعميل سابق لوكالة المخابرات المركزية في الولايات المتحدة المعروفة اختصاراً ب«سي آي إيه» وهي: «بعد كل ذلك، لا تعتبر وكالة المخابرات المركزية سوى أنها الشرطة السرية للرأسمالية الأمريكية، التي تقوم ليل نهار بسد التسريبات التي تحدث في السدّ السياسي، لكي يستمتع أصحاب الشركات الأمريكية العاملون في الدول الفقيرة بنهب مقدرات شعوبها».
ضدّ حقوق الإنسان
يشير الكاتب برايس إلى أن نهاية الحرب العالمية الثانية تركت الولايات المتحدة في موقف نادر بين المنتصرين، إذ لم تكن أمريكا الدولة الوحيدة على الأرض التي تمتلك سلاحاً جديداً قادراً على تسوية مدن بالأرض على نحو فوري وبشكل كامل، لكن عدم إلحاق الضرر بجبهتها الصناعية أعطاها الفرص الاقتصادية الحصرية التي جعلتها تمتد عالمياً.
ويرى أن الولايات المتحدة دخلت حينها عصراً من الازدهار الاقتصادي لم يشهده العالم من قبل، معلقاً: «مع نظام اقتصادي عالمي متمدد، وبطء في تعافي الكثير من دول العالم من أضرار الحرب، وجدت أمريكا نفسها مع ما وصفها سراً في 1948 جورج كينان مهندس الحرب الباردة، والذي كان يدعو إلى احتواء الاتحاد السوفييتي: «دولة بيدها حوالي 50 في المئة من ثروة العالم، لكن فقط 6.3 في المئة من سكانها يتمتعون بها.. في هذا الوضع، نكون مثار حسد واستياء. مهمتنا الحقيقية في الفترة المقبلة هي ابتكار نمط من العلاقات التي من شأنها أن تسمح لنا بإبقاء هذا الوضع من التفاوت… للقيام بذلك، علينا أن نتخلى عن العاطفية وأحلام اليقظة، واهتمامنا سوف يكون منصباً في كل مكان على أهدافنا القومية الآنية… يجب أن نتوقف عن الحديث عن الغموض والأهداف غير الواقعية مثل حقوق الإنسان ورفع معايير مستوى المعيشة والديمقراطيات».
ويعلق البروفيسور ديفيد برايس على ما قاله كينان مخطط السياسات الخارجية الأمريكية في سنوات الأربعينات والخمسينات قائلاً:»فهمَ كينان أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة لا يمكنها بشكل جدي أن تدعم الجهود لتحسين حقوق الإنسان، ورفع معايير مستوى المعيشة، وإدخال إصلاحات ديمقراطية فعلية. ومع ذلك، فقد قلل من أهمية الحاجة «للحديث عن» هذه الأهداف غير المنطقية والغامضة كأدوات البروباغندا الدولية والمحلية. استهزاء كينان كان مرتبطاً بعدم قدرة العديد من علماء الاجتماع الأمريكيين حينها على الاعتراف بأن مثل هذه التحفيزات التي تكون في خدمة مصالح ذاتية تتموضع في قاعدة العديد من البرامج والسياسات الخارجية الأمريكية في فترة الحرب الباردة المرتبطة بالأكاديميين الأمريكيين».
ويتحدث عن نهاية الحرب التي جلبت الشك لوكالات المخابرات الأمريكية، إذ إنه بموجب قانون تنفيذي أصدره الرئيس ترومان، تم حل مكتب الخدمات الاستراتيجية المعروف اختصاراً ب«OSS» في 1 أكتوبر/تشرين الأول 1945، وأوكلت مهام المخابرات إلى وزارتي الخارجية والحرب، ويتناول الفترة التي سبقت تأسيس وكالة المخابرات المركزية «سي آي إيه» فكانت حوالي 664 يوماً، قامت المخابرات خلالها ببعض وظائفها إلا أنها شهدت خللاً مؤسساتياً في أدائها.
علاقة ملتبسة
يتناول هذا العمل في سرد دقيق ومفصل العلاقات المتنوعة بين علماء الأنثروبولوجيا (الدراسة العلمية للإنسان وسلوكه وأعماله) الأمريكية ووكالات الاستخبارات في الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية إلى حرب فيتنام. وقد سبق للمؤلف أن ناقش في أعماله السابقة علماء الأنثروبولوجيا الذين كانوا يعملون للدولة الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية، واضطهاد علماء الأنثروبولوجيا تحت المكارثية.
لجأ الكاتب خلال بحثه إلى مجموعة ضخمة من المواد الأرشيفية من مذكرات ووثائق غير منشورة طلبها من وكالة المخابرات المركزية في الولايات المتحدة ووزارة الدفاع «البنتاغون»، وهياكل الدولة الأخرى.
ويقدم فيه تحليلاً دقيقاً لتواطؤ علماء الأنثروبولوجيا مع أجهزة الدولة الأمريكية خلال الحرب الباردة، مقسماً عمله إلى قسمين، يتناول فيهما بشكل عام التغيرات في موقف أغلبية أشكال الانضباط والسلوك بشأن السياسة الخارجية للولايات المتحدة، حيث تغيرت من موقف الانحياز إلى الاعتراض.
يأتي القسم الأول بعنوان «البنية الانضباطية السياسية والاقتصادية في الحرب الباردة»، يركز فيه الكاتب على تطور علاقات الانضباط والسلوك مع أجهزة الاستخبارات بعد الحرب العالمية الثانية.
ويؤطر برايس حجته في سياق تغير السياسة الخارجية للولايات المتحدة حينها من مكافحة الفاشية والشمولية إلى تبني سياسات التحديث والتطوير الاستعمارية الجديدة.
ويناقش فيه الروابط بين أجهزة الاستخبارات الفيدرالية ما بعد الحرب العالمية الثانية وعلماء الأنثروبولوجيا، بالإضافة إلى هياكل التمويل الكبيرة مثل وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية ( USAID). ويتناول على نطاق واسع تأثير البيئة السياسية في تطور أي شكل من أشكال العلوم.
ويتألف هذا القسم من خمسة فصول هي: أولاً، الاقتصاد السياسي وتاريخ المخابرات الأمريكية في الحرب الباردة. ثانياً، الظل الطويل للحرب العالمية الثانية. ثالثاً، إعادة توظيف الأنثروبولوجيا المهنية في عالم ما بعد الحرب. ثالثاً، بعد الحرب: المراكز واللجان والندوات، ومشاريع الحرب الباردة الأخرى. رابعاً، علماء الأنثروبولوجيا والدولة: المساعدات، والديون، وأسلحة الحرب الباردة الأخرى للأقوياء. خامساً، اللحن الفاصل.

عسكرة الأبحاث الاجتماعية

وفي القسم الثاني من الكتاب بعنوان «ارتباط علماء الأنثروبولوجيا مع حالة الأمن القومي» يركز فيه برايس عبر تحليل دقيق على علماء أنثروبولوجيا ومؤسسات معينة، بما فيها الهياكل الأكاديمية مثل»مؤسسة آسيا وعلماء الأنثروبولوجيا المستقلون»مثل جيرالد هيكي. ويناقش برايس أيضاً تأثير القلق المتزايد لعلماء الأنثروبولوجيا في كل من التورط العلني والسري مع الدولة التي غلبت عليها العسكرة، وبلغت ذروتها في أواخر ستينات القرن الماضي، حيث تغلغلت فصائل راديكالية في اتحاد الأنثروبولوجيا الأمريكية من خلال مدونة قواعد السلوك.
ويدعو إلى معاينة نقدية ومستمرة للتاريخ والأعمال المعاصرة لعلاقات الاستخدام المزدوج، ويجد أنه مع الأزمات المتكررة والجهود التضليلية التي تجري لا بد من حل المشكلات السياسية باستخدام الأخلاق، وليس السياسة، مركزاً على انعدام الأخلاق لدى الكثير من السياسيين الأمريكيين وحلفائهم في المخابرات والجيش.
ويتكون هذا القسم من تسعة فصول هي: أولاً، أنثروبولوجيو الحرب الباردة في وكالة المخابرات المركزية. ثانياً، كيف تمول وكالة المخابرات المركزية الأمريكية البحوث الأنثروبولوجية؟ ثالثاً، أنثروبولوجيون متعاونون مع وكالة المخابرات المركزية بشكل غير مقصود. رابعاً، العمل الميداني في الحرب الباردة داخل عالم المخابرات. خامساً، أحلام مكافحة التمرد الأنثروبولوجية في الحرب الباردة. سادساً، اتحاد علماء الأنثروبولوجيا الأمريكيين يتصدى لاستعمال الجيش والمخابرات للمعرفة التأديبية. سابعاً، مكافحة التمرد المبلغ عنه بشكل أنثروبولوجي في جنوب شرق آسيا. ثامناً، علماء الأنثروبولوجيا لأجل العمل السياسي الراديكالي والثورة داخل اتحاد علماء الأنثروبولوجيا الأمريكيين. تاسعاً، فك الأسرار المفتوحة، التواريخ المخفية، الغضب المرفوض، مواضيع الاستخدام المزدوج المتكررة.

الاستخدام المزدوج
يعتمد تحليل ديفيد برايس على إطار الأنثروبولوجيا «ذات الاستخدام المزدوج»، ويذكر أن مصطلح «الاستخدام المزدوج» المعتمد من العلوم الفيزيائية، يشير إلى العلاقات التكافلية، غالباً غير المعترف بها، بين العلوم «التطبيقية» و«النقية»، مع إيلاء أهمية خاصة لاستخدام العلم من قبل الجيش ولأجله.. وفي مسألة وصف العلاقات بين الانضباط السلوكي والأخلاقي والجيش، يجد برايس أنه كان هناك درجات مختلفة من التواطؤ.
ويقول إنه أولئك الأنثروبولوجيون الذين آمنوا بأن عملهم كان محايداً من الناحية السياسية، كان في كثير من الأحيان متهوراً وغير محايد – في بعض الأحيان بشكل مقصود جداً – فيما يتعلق ب«التحالفات غير المفحوصة» مع الدولة المعسكرة. وبالتالي، في تحليله يتم وصف عدد قليل نسبياً من الجهات والمؤسسات التي تعمل بشكل مباشر مع أجهزة الاستخبارات العسكرية، والجزء الأكبر من تحليله يذهب إلى مؤسسات وهياكل التمويل التي فتحت الأبحاث لمناطق مختلفة، دفعت للتدريب على اللغة، وروجت للمنح الدراسية في مجلات معينة.. إلخ.
ويقول برايس إن هذه العلاقات الأخيرة شكلت في النهاية الأنثروبولوجيا من خلال الترويج لمناطق جغرافية معينة تحظى باهتمام أجهزة الاستخبارات، وكذلك من خلال الوسط السياسي العام الذي تم من خلاله إنتاج المنح الدراسية.
انعدام البوصلة الأخلاقية
يشير البروفيسور ديفيد برايس في نهاية عمله إلى الأنثروبولوجي الأمريكي الشهير ابن ال86 عاماً مارشال ساهلينز، الذي استقال في 2013 من الأكاديمية الوطنية للعلوم بسبب اعتراضه على أن الأكاديمية كانت تستخدم أعضاءها الأنثروبولوجيين في السعي إلى العمل لأجل مشاريع بحثية بتمويل من معهد البحوث العسكرية.
وفي رسالة استقالته، وصف ساهلينز إدراكه المتزايد بالطرق التي ساهمت فيها الأكاديمية بشرعنة العلوم الاجتماعية المعسكرة، والتي قادته إلى نقطة لم يتمنَ أن يكون طرفاً في مساعدة ودعم مشاريع بحثية تساهم في بحوث اجتماعية علمية لأجل تحسين الأداء القتالي للجيش الأمريكي، الذي يجده نهب دماء وثروة وسعادة الشعب الأمريكي، وتسبب في فرض معاناة على شعوب كثيرة في حروب لم يكن من داع لها.
يشكل هذا الكتاب مصدراً مهماً للقراء والمتخصصين والأكاديميين على وجه الخصوص في الاطلاع على تأثير تيارات التمويل في صنع القرار العلمي والبوصلة الأخلاقية التي يجد الكاتب أنها وصلت إلى مرحلة خطرة، وتحتاج إلى مراجعة شاملة، نظراً للكوارث التي يعانيها سكان مناطق ودول كثيرة في العالم.

من هو إتش برايس؟

ديفيد إتش برايس بروفيسور أمريكي من مواليد 1960، يعمل حالياً أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة سانت مارتن في لاسي، بواشنطن. أجرى العديد من الأبحاث والمهام الميدانية الأنثروبولوجية والأثرية في الولايات المتحدة وفلسطين ومصر واليمن. وهو عضو مؤسس لشبكة علماء الأنثروبولوجيا المعنيين، ويساهم بكتابته بشكل مستمر في موقع «Counterpunch»، وغيرها من المجلات والمواقع الرصينة. كتب ثلاثية تاريخية صادرة عن جامعة ديوك الأمريكية شمالي كاليفورنيا تناول فيها تفاعلات علماء الأنثروبولوجيا الأمريكيين مع وكالات الاستخبارات. الكتاب الأول بعنوان»الاستخبارات الأنثروبولوجية: استخدام وإهمال الأنثروبولوجيا الأمريكية في الحرب العالمية الثانية، (2008)، يوثق فيه المساهمات الأنثروبولوجية في الحرب العالمية الثانية. أما الكتاب الثاني فهو بعنوان «تهديد الأنثروبولوجيا: المكارثية واضطهاد مكتب التحقيقات الفيدرالي لعلماء الأنثروبولوجيا الناشطين (2004)، يعاين فيه الآثار المكارثية في علماء الأنثروبولوجيا. أما الكتاب الثالث فهو الذي بين يدينا بعنوان «أنثروبولوجيا الحرب الباردة: سي آي إيه والبنتاغون، ونمو أنثروبولوجيا الاستخدام المزدوج»، صادر في أواخر 2016 في 488 صفحة من القطع المتوسط، ومن كتبه أيضاً «تسليح الأنثروبولوجيا: العلوم الاجتماعية في خدمة الدولة المعسكرة» (2011، كاونتر بونج) يعاين فيه بشكل نقدي الاتجاهات الحالية في عسكرة الأنثروبولوجيا والجامعات الأمريكية.

زر الذهاب إلى الأعلى