صباح أخضر
تأخذك بعض الأعمال الأدبية التي تستقي روحها من الأماكن بوجه خاص إلى زمن المكان، وصورته، وهويته الجمالية أو الاجتماعية، فيصبح النص شعراً أو سرداً هو المكان ذاته، ولكن.. مصنوعاً من اللغة.
على ذلك، يكون المصريون أدرى الناس بروايات نجيب محفوظ، فهم أهل الأمكنة التي كتب عنها ومنها صاحب «خان الخليلي»، وأهل مكة دائماً أدرى بشعابها، وإذا قرأوا رواية أو قصيدة حول مكة، ومكة هنا مجاز وليست مكاناً، فهم الأدرى أكثر من غيرهم بالرواية والقصيدة.
كتب حنا مينة عن البحر في اللاذقية، وأهل اللاذقية أدرى بالبحر وأدرى برواية (الدقل)، وعندما يقرأ الفلسطيني نصاً لمحمود درويش عن جبل الكرمل، فأقرب الناس إلى النص وإلى الكرمل هو الفلسطيني.
العراقيون أدرى من غيرهم بشعر بدر شاكر السياب حول نهر بويب وشناشيل ابنة الجلبي، ومهما كان هواك بغدادياً، فلن تعرف بغداد أكثر من العراقي الذي كما قيل دائماً إذا نفض كمّ قميصه.. تساقط منه الشعر، وقبل أن يأتي الكثير من الكتّاب والفنانين والمسرحيين العرب إلى منطقة الخليج العربي، لم يكونوا يعرفون القيمة الأدبية والجمالية لثقافة الغوص واللؤلؤ والبراجيل، والقلاع التاريخية والخور والأفلاج حتى لو قرأوا عن هذه المكونات المكانية في الأدب، ولكن القراءة مع المشاهدة أوجدت وعياً جديداً عميقاً بالنص وبالمكان.
على ذلك أيضاً، قد يكون من قرأ رواية «ليلة لشبونة» شغوفاً برؤية لشبونة والتجوال في الشوارع والأماكن والحانات والمقاهي التي جرت فيها وقائع الرواية، حيث تموت «هيلين» في المدينة، ويتحطم حلم «شفارتس» بالهجرة إلى أمريكا، هرباً من الجستابو النازي.
أمس، اقرأ قصيدة حارة للشاعر التونسي المنصف المزغني في رحيل صديقه «أولاد أحمد» الذي اختطفه الموت من الحياة، ومن الشعر: يقول: «.. أتدري..
بأن النساء اللواتي حَببنَك
أخذن إجازة
ليحضرن يوم الجنازة..»
ّأهل تونس يعرفون تونس أكثر من ذلك الزائر العابر، الذي التقى ذات يوم أولاد أحمد في أمسية غارقة برائحة الياسمين في شارع بورقيبة، حيث تنام العصافير قبيل غروب الشمس في الأشجار المتجاورة في امتداد الشارع نحو «باب البحر»، ومع الامتداد الشجري أيضاً ثمة صف من المقاهي تفور منه رائحة القهوة والصباحات التونسية الخضراء.
في ذلك الشارع.. كانت قصيدة ذات مساء، وكانت تونس، وأولاد أحمد، والمنصف، وكانت امرأة في صباح تونسي أخضر.
يوسف أبولوز
y.abulouz@gmail.comOriginal Article