صدقوا.. العنف يتراجع في عالمنا!
د. غسان العزي
من يتابع الأخبار اليومية ويقرأ الصحف ويشاهد الفضائيات يشعر بإحباط شديد حيال العالم الذي نعيش فيه والذي تتزاحم فيه الهجمات الإرهابية والصراعات الدولية والكوارث الطبيعية والتلوث البيئي وغيرها.
رغم ذلك هناك من الباحثين والمفكرين والفلاسفة من يعتقد بأننا نعيش في عالم أفضل بكثير وأقل عنفاً من ذلك الذي عاش فيه آباؤنا أو أجدادنا. ففي العام ٢٠١١ نشر عالم النفس الأمريكي الأستاذ في جامعة هارفارد ستيفن بينكر كتاباً بعنوان «الجزء الملائكي فينا، تاريخ العنف وأفوله» يعتمد على عشرات المراجع والجداول والإحصائيات والتحليلات وغيرها المتعلقة بالعنف والوحشية منذ بداية الجنس البشري إلى اليوم، ليخلص إلى نتيجة مضمونها بأن العنف والوحشية يتراجعان تاريخياً ونحن نعيش اليوم أفولاً لهما على الرغم من كل ما نشهده من إرهاب ووحشية وجريمة منظمة وغير منظمة وعنف وما إلى ذلك. ويرتكز عمل بينكر على التحقيب أي تقطيع التاريخ الاجتماعي (ست حقب كبرى منذ الوحشية إلى العولمة) للجنس البشري وإجراء تحليل سايكولوجي للجنس البشري في كل حقبة بغية معرفة تأثيراتها ودورها في مسيرة أنسنة البشر منذ بدايات وجودهم إلى المدنية المعاصرة المعولمة.
وكان المفكر الفرنسي ريمون آرون قد وضع، قبل وفاته، في ثمانينات القرن المنصرم نظرية عن التراجع المطرد، عاماً بعد عام، للعنف في العالم (الطبعة الأخيرة من كتابه الشهير «السلم والحرب بين الأمم»، باريس ١٩٨٤) عن طريق تحليل علمي في مجال العلاقات الدولية والتاريخ السياسي والاقتصادي.
وقد يقول قائل بأن كتاب بينكر، وريمون آرون بالطبع، صدر قبل الإرهاب الداعشي ومثيله في سوريا والعراق واليمن وليبيا وغيرها. لكن مفكرين وفلاسفة آخرين في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة أمثال برونو ترتريه وميشال سير أو جاك لوكومت أو جوهان نوربرغ، عايشوا أهوال إرهاب القاعدة وداعش وغيرهما وكتبوا عنه، ولا يخفون، هم أيضاً، تفاؤلاً واضحاً مدعوماً بالأرقام والأدلة والتحليل العلمي، حيال عالمنا الذي نعيش فيه والذي يتراجع فيه العنف في رأيهم وتتقدم فيه المنجزات الإنسانية الحضارية الرائعة.
ومن جهته أكد تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية الصادر في العام الماضي بأنه «في العام ٢٠١٥ تم التوصل إلى حلول لمشاكل كانت تبدو عصية على الحل قبل ذلك بربع قرن». فعلى الرغم من أن عدد سكان العالم قد زاد من ٥،٣ مليار نسمة العام ١٩٩٠ إلى ٧،٣ مليار نسمة العام ٢٠١٥، فإن أكثر من مليار شخص خرجوا من حالة الفقر المدقع ٢،١ مليار صار عندهم بنى تحتية صحية صالحة كانوا يفتقدون إليها وأكثر من ٢،٦ مليار صار لهم مصادر جديدة لمياه عذبة صالحة للشرب. وبين العامين ١٩٩٠ و٢٠١٥ تراجعت وفيات الأطفال في العالم إلى النصف تقريباً من ٩١ إلى ٤٣ حالة وفاة من أصل ألف ولادة جديدة.
الإحصاءات السنوية الرسمية للعنف أحصت ١١٨ ألف قتيل ضحية للعنف السياسي في العام ٢٠١٥. في هذا العام نفسه تم إحصاء خمسين صراعاً في سبع وعشرين دولة بينها صراع واحد بين دول، والباقي في داخلها أي صراعات أهلية، وفقط أحد عشر منها وصل إلى مستوى يمكن معه وصفه بال«حروب»، أي وقع ضحيته أكثر من ألف قتيل بسبب العمليات العسكرية. بالنسبة للإرهاب والذي عادة ما يحظى بتغطية إعلامية واسعة هناك أيضاً تراجع للظاهرة الإرهابية. فبحسب إحصاءات وزارة الخارجية الأمريكية في العام ٢٠١٥ وقع ٢٥١٤٥ إنساناً ضحية للإرهاب الذي حدثت ٧٤٪ من هجماته في خمس دول هي العراق وأفغانستان وسوريا ونيجيريا وباكستان. بالمقارنة مع العام ٢٠١٤ هذه الأرقام تدل على تراجع نسبته ١٥٪ للهجمات الإرهابية و١٤٪ لعدد ضحاياها.
وعلى الرغم من أن هذه الأرقام والوقائع تدل على تراجع للعنف وعدد ضحاياه فإن تحليلات الخبراء والصحفيين والمهتمين بالشأن العام لا تزال تتسم بالكثير من التشاؤم واليأس. وسبب ذلك نفسي بحسب عالم السياسة الأمريكي تيمور كيوران الذي يعتقد بأن الحقائق التي لا تتفق مع قناعاتنا المسبقة المبنية على الرأي العام الشائع وليس على المعرفة العلمية، تبقى أقل تأثيراً وانتشاراً، وبأن المعطيات الواقعية التي كان يمكن أن يكون لها تأثير قبل أن يتكون رأينا لن يكون لها مثل هذا التأثير إذا عرضت علينا بعد أن يتكون هذا الرأي. وبالتالي فإن الإحصائيات الإيجابية عن حالة العالم تبقى من دون تأثير في القناعات الفردية القائمة على الرأي العام المسبق السائد، والتي تتسم بالكثير من الإحباط واليأس حيال العالم الذي نعيش فيه.