قضايا ودراسات

صدمة المستقبل

د. نسيم الخوري

كان المشتركون بالصحف يشقّون أبواب بيوتهم في الصباح لتناول الجريدة وقارورة الحليب. هي عادة بريطانية توسّعت في الغرب والشرق وتندثر. السؤال اليوم: هل نترقب المزيد من الابتكارات فنصدر الصحف الإلكترونية وفقاً لطلب القارئ بدلاً من الصحف التقليدية السريعة والجاهزة، لتصل إلى القرّاء من دون أي تمييز في ما بينهم؟
المعروف أن سلطتَي الصورة والكلمة السريعة أضحتا فرديّتين، بسبب من مجانية وسائل النقل والتوزيع وتكلفة التحرير والطباعة. أصبح بالإمكان حذف المرحلة الصناعية الكاملة في إنتاج الصحيفة، من هيئات التحرير، والورق والطباعة، والتخلص من الإضرابات والنقابات، ودفع الضرائب والرسوم الباهظة، ووكالات الأنباء والصور؛ لأن تكاليف المطبوعة تساوي صفراً على المستوى المالي.
يطلع الناشرون فيؤسسون مواقعهم وينشرون، محققين النشوة في اختصار الحدود والمسافات، وفي اقتراح قارئ لكل طبعة أو صحيفة لكل قارئ. نعم الصحافة على مقاييس القراء أو طلباتهم، امتهنتها «وول ستريت جورنال» التي تقدّم لكل قارئ من مشتركيها طبعته الخاصة. وهؤلاء المشتركون يتمتّعون باهتمامات متخصّصة بالصحافة والمعلومات الاقتصادية؛ لذا يركز الناشرون على قرّاء ذوي قدرات مالية عالية. ولأن كل واحد يتمتع بسلطة الطلوع على الإنترنت، فإنه أيضاً صاحب حق في إيجاد موقع خاص به، يبث منه الأخبار والمعلومات التي يراها صالحة وفقاً لمزاجه ومصالحه. ومع هذا النوع من النشر الإلكتروني الحر، تختفي مهنة الصحافة التي يمارسها اليوم أناس لا يحصون.
ما يبدو في الأفق إذاً إنترنت تسير وفق نوعين من السرعة: إنها من ناحية ممثلة في المواقع السباقة المعروفة، حيث الملاحق الدائمة تُكمل الأخبار بالوقائع الجاهزة وفق ما تقتضيه أحوالها ومستجداتها بالثانية، مستفيدة من صدقية مشهود لها. ومن ناحية أخرى ممثلة في شركات وأفراد يضعون في تصرف الجماهير مواقع متبدلة جذابة مغرية تمثل «مصارف» غنية جداً بالمعلومات، لكنها نادرة الوثوق الكامل بها.
وصلنا إلى زمن يضع فيه كل مبحر «حبة الملح» التي يريدها في طبق غيره ليحقّق مهنته الصحفية الجديدة. ويوصلنا البحث عن الصحف وفقاً لطلب القرّاء إلى توقعات شديدة الأهمية استشرفها المفكرون في أبحاثهم عن أحادية الفكر أو تنوعه، فقد أخرجت الصحف الجاهزة وسائل الإعلام إلى ما يعرف بالتنوع اللانهائي، بحيث تبدو معها سلعاً تابعة لأذواق المستهلكين وخياراتهم.
ألم تقدّم مصانع السيارات والطائرات والموضة للمستهلكات والمستهلكين «الموديلات» الفريدة الوحيدة الخاضعة لطلباتهم؟ قد نجد اليوم إحصائياً أكثر من 25 مليون موديل مختلف توضع بتصرّف الجميع. حصل الأمر نفسه قبلاً مع شيوع آلات التصوير التي انتزعت وظائفها المهنية المختلفة، وباتت في أيدي الملايين من الهواة، ومثلها الكاميرات التلفزيونية والسينمائية الفردية.
ليس هذا التنوّع اللانهائي فكرة هابطة. كان هربرت ماركوز الفيلسوف وعالم الاجتماع الأمريكي في طليعة الذين كتبوا في العقل والثورة، رافضاً التماثل والأحادية والتشابه.
اعتبر في كتابه: «الإنسان ذو البعد الواحد»، أن التقنيات الإعلامية المفروضة تجرّنا إلى نهايات الإنسان ومحو فكره النقدي وأسره في الخطب المقفلة والأفخاخ الثقافية واللغوية، فيمرض بالألينة بمعنى الغربة أو الاغتراب؛ وكأنه مساحة مسطحة مقفلة ذات بعد واحد.
وظهر آلفين توفلر باحثاً غزيراً في الانهيارات التي تحدثها وسائل الإعلام على مستوى البشرية. كتب «صدمة المستقبل»، و«الموجة الثالثة»، و«السلطات الجديدة»، وعرف بدراساته ومحاضراته واستشاراته لعدد كبير من الملوك والوزراء والمؤسسات الإعلامية في مختلف أنحاء العالم.
توفلر اليوم فيلسوف التنوع والاختيار؛ نتيجة الثورة الإعلامية أو الموجة الثالثة، وقوامها الكاميرات والقراء ولوحات المقابس والهواتف والنواسخ والحواسيب وأقراص المعلومات، وأشرطة الفيديو، والكابلات التوصيلية، وخطوط النقل، والتلفزيونات، والشاشات والطابعات، والأقمار الصناعية، وكلها شبكة/عدة واحدة، معتبراً أن ثورة الكومبيوتر والاتصالات تقود أمريكا نحو تدفق إمكانيات الاختيار والتنوع إلى ما لا نهاية، وتدفّق الحرية نحو العبودية أو انتفاء الحرية.
لن نجد طالبَين يتابعان البرنامج التعليمي نفسه. وسيجرفنا التنوع فكرياً وروحياً، إلى الثقافة المفككة. تتفتت المجتمعات والديانات وتسقط الحرية في اللاحرية، أو ما سماه توفلر ب«صدمة المستقبل»، الذي أتمنى أن يقرأه كل عربي معاصر؛ لأن هذا الإثبات لايتخذ قيمته إلا بتجليات ما نحن فيه من مخاطر كبرى، حضارية وثقافية ولغوية؛ إذ لكلٍ لهجته ولغته أو أسلوبه الخاص في عالم متنوع، يتفكك إلى الدوائر الخاصة الضيقة، تنزلق الدول في شهوة التنوع، في الوقت الذي ينزلق الناس في تجلياتهم «اللااتصالية».

زر الذهاب إلى الأعلى