قضايا ودراسات

صراع العطالة والتغيير في العالم العربي

حسام ميرو
دأبت معظم الأنظمة العربية على كبح مجريات التغيير الاجتماعي والسياسي، مستفيدة من تراكم أدوات القوة لديها، وهو التراكم الذي حقّقه استمرار النخب الحاكمة لعقود طويلة في الحكم، حيث أمسكت النظم السياسية بآليات إنتاج السلطة، وهو ما أتاح لها مستوىً عالياً من التحكم في الاقتصاد، عبر التشريعات والقوانين، في ظل عدم فصل السلطات الثلاث، وهيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية.
وفي ذلك السعي المنظم لإمساك آليات إنتاج السلطة، قامت الأنظمة العربية بقطع مسار التراكم في مناحي الحياة العامة كافة، ولم تُتح لتناقضات الحياة العامة أن تجد مجالها للتعبير، رافعة شعار الأمن الوطني فوق أي شعار آخر، وهو الشعار الذي سنّت تحت رايته العديد من القوانين الكابحة للحريات، أو التي تسمح للنظام السياسي أن يتدخل لمنع نشوء حراك اجتماعي يتناقض مع مصالح النخب الحاكمة، ومن ضمن تلك القوانين «قانون الطوارئ»، الذي تحوّل في بلاد عربية كثيرة إلى قانون دائم.
في ظل هذا التوجه العام للنظم السياسية العربية، كان من الطبيعي أن يصيب التقادم العقد الاجتماعي الذي أسس للنظم السياسية نفسها، ومنحها الشرعية لحظة توليها زمام الحكم، وفقدت التوافقات الاجتماعية-الاقتصادية معناها الذي اكتسبته في لحظة تاريخية محددة، خصوصاً بعد مرحلة الاستقلال عن الانتدابات الغربية، ولم يكن من الممكن في ظل هيمنة شبه مطلقة للنظم السياسية أن تصعد قوى جديدة، تعبّر عن ذاتها، في طموح مشروع لإعادة إنتاج عقد اجتماعي جديد من جهة، ومن جهة أخرى تجديد أولويات النظام السياسي، خصوصاً أن النظم السياسية العربية اتجهت نحو الخارج، بما ينطوي عليه من مكاسب يتمُّ تسخيرها في ديمومة النظام السياسي الحاكم.
وكانت معظم النظم السياسية العربية قد اطمأنت إلى عدم قدرة مجتمعاتها على إنتاج قوى بديلة، معتمدة في تقديرها لهذا الأمر على غياب أي هياكل فاعلة نقابياً وسياسياً، وعدم وجود برجوازية حديثة، ذات طموح في التغيير، أو القيادة، وإلى ارتباط المنظومتين العسكرية والأمنية بمصالحها، يضاف إلى ذلك الشرعية التي منحتها إياها ارتباطاتها بمحاور إقليمية أو دولية، وهذه الصورة شبه المحكمة أوحت للنظم السياسية بإمكانية ديمومة الحال على ما هو عليه، وأنها قادرة على مواجهة أي تحركات اجتماعية محتملة، مقدّرة أنها ستكون تحركات محدودة، ويمكن ضبطها، والتعامل معها، بل والاستفادة منها في تكريس نفسها، ونسف أي أمل لدى المجتمع بالتغيير لعقود مقبلة.
ما لم تأخذه الأنظمة السياسية العربية في حسبانها أن حجم العطالة الهائل في القوى المجتمعية يشكّل بحد ذاته مأزقاً لا يمكن التكهن بلحظة انفجاره، أو نتائج ذلك الانفجار، وأن عدم تنفيس الاحتقان الاجتماعي على مدار عقود يجعل من الصعوبة بمكان معالجته لحظة انفجاره، وأن احتكار القوة من قبلها (أي النظم السياسية) لم يعد كافياً لضبط الغضب الشعبي، وأن عقلنة ذلك الغضب، والتحكم في مساراته، تحتاج إلى وسائل وأدوات لا تمتلكها النظم السياسية.
وفي صلب تلك العطالة المجتمعية، يشكّل الشباب النسبة الأكبر من تلك العطالة، التي ستتحوّل بين ليلة وضحاها، كما في البلدان التي شهدت ما يسمى «الربيع العربي» إلى قوة كبيرة، تغذي حالة الاحتجاج، خصوصاً أن الأجيال الشابة الجديدة تفتحت وسط غياب أي أمل بأن تجد لها مكاناً ومكانة في البنى الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية المكرّسة، ويمتلك قسم كبير من الفئات الشابة مستوىً تعليمياً جامعياً، وتمكّن بفضل ثورتي التقانة والاتصالات من الاطلاع على عوالم مغايرة لما هو قائم في مجتمعاته، وهو ما وضعه في حالٍ من المقارنة بين واقعه البائس وبين معرفته الجديدة.
إن انتفاضات الشباب العربي، وعلى الرغم من مآلاتها، كانت بمثابة استحقاق تاريخي لانغلاق بنية النظام السياسي، والإفقار المتزايد للشرائح الاجتماعية، وتراكم الثروة في يد النخب الحاكمة، وغياب برامج التنمية، وعدم وجود أي ملامح للتغيير السياسي يمكن أن يحدث من داخل النظم السياسية نفسها، أما نتائج الصدام بين القوى المجتمعية وبين النظم السياسي فلها مبحث آخر.
إن تجاهل درس «الربيع العربي» من قبل النظم السياسية العربية سيجعل من احتمال تكرار هذا السيناريو أمراً وارداً، وما هو خطر أن قوى العطالة الاجتماعية، في انفجارها غير المنظم، لم يتح لها، بحكم عطالتها، أن تبلور مشاريع بديلة، أو نخباً يمكن لها أن تقود حراكها.

husammiro@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى