صراع القوى في صناعة القرارات
عاطف الغمري
لا أنسى إلى اليوم، أول محاضرة لنا في الثمانينات ونحن ندرس برنامج صناعة قرار السياسة الخارجية الأمريكية، الذي يحاضر لنا فيه مسؤولون أمريكيون سابقون، وكان المحاضر في اليوم الأول مستشاراً سابقاً للرئيس الأمريكي، وعنوان المحاضرة: «كيف أن أمريكا مختلفة».
ومن خلال شرح عملي راح يوضح لنا تميز النظام السياسي الأمريكي، دون غيره من الأنظمة، بوجود سبع قوى داخلية تعتبر شريكة أو صاحبة نفوذ، على قرار السياسة الخارجية، وهذه القوى هي بحكم الدستور: الرئيس، الكونجرس، يليهما نفوذ جماعات المصالح، وقوى الضغط، ومراكز الفكر السياسي، والإعلام والرأي العام.
وكل منها يمارس ضغوطه، لكن قدرته على التأثير تتوقف على ما إذا كان الرئيس يتمتع بقوة ومكانة، تحد من تأثير الضغوط على قراره، أو على العكس، إذا ما كان الرئيس في البيت الأبيض، يعاني مشاكل عامة أو شخصيته تضعف من قدرته على مواجهة أي قوة صاحبة مصلحة في دفع قراره ناحيتها، وكل ذلك يجري في إطار نظام سياسي، سبق أن وصفه مساعد سابق لوزير الخارجية الأمريكي بقوله: «نحن دولة الضغوط»، ولا يختلف هنا الوصف عن التعبير الذي استخدمه هنري كيسنجر بقوله، إن القرار في واشنطن يصدر بطريقة أشبه بما كان يجري في حلبات الصراع في عهد الإمبراطورية الرومانية.
وإذا اتخذنا نموذجين فقط للتدليل على إمكان تحييد الضغوط على قرار الرئيس الأمريكي، سنلاحظ ما كان يتمتع به إيزنهاور من قوة ونفوذ شعبية مكّنته من تحييد نفوذ القوى الضاغطة، وعلى العكس من ذلك كان ما حدث للرئيس بيل كلينتون من تهافت قدرته على اتخاذ قرارات في السياسة الخارجية في ولايته الثانية، نتيجة ما تعرض له من هجوم وتهديدات بالمحاسبة والمحاكمة؛ نتيجة فضيحة مونيكا لوينسكي، والتي ثبت فيما بعد أن القوى اليهودية كانت وراء تدبيرها، لكسر إرادته، ومنعه من فرض حل أمريكي لعملية السلام.
وأحياناً تنعكس قدرة الرئيس في الداخل على اتخاذ قراراته بشأن السياسة الخارجية، على علاقات الدول الأخرى معه، خاصة إذا أدت المغالاة في الضغوط، إلى دفع الرئيس لإصدار قرار قد لا يكون مقتنعاً تماماً به، فيأتي القرار محاطاً بالغموض، وهو ما يتسبب في تراجع الثقة في مصداقية الولايات المتحدة.
بينما الوضوح الكلي لأي قرار يعد شرطاً أساسياً لتسهيل التعامل مع الدول الأخرى، وإلا انتابتهم الشكوك في إمكان الاعتماد على الولايات المتحدة، وإذا ساد هذا الغموض الذي يمكن أن يكون مصحوباً بالتضارب في المواقف، فإن الولايات المتحدة ستجد نفسها في موقف يصعب عليها فيه إقناع حلفائها بالتمسك بالتزاماتها تجاههم، وهذا هو ما تحدثت عنه البروفسور كارين ميلو، أستاذة الشؤون السياسية والدولية بجامعة برنيستون، في دراستها التي نشرت بمجلة الشؤون الخارجية.
وقالت فيها إن تناقص الثقة في أمريكا لدى حلفائها قد يدفعهم لأن يصبحوا أكثر اعتماداً على أنفسهم بعيداً عنها، كما قد يشجع خصوم الولايات المتحدة، لأن يكونوا أكثر تشدداً في مواقفهم تجاهها.
وكانت مصداقية الولايات المتحدة قد أخذت تتضاءل في عهد أوباما منذ عام 2013، ثم بدأت تهتز في نظر بعض الحلفاء، نتيجة تناقضات مواقف الرئيس ترامب، والمثل على ذلك، ما أعلنه عقب توليه الرئاسة عن تخليه عن «سياسة الصين الواحدة»، واتصاله برئيس فورموزا التي تعتبرها الصين جزءاً من دولتها الواحدة، وهو الأساس الذي قامت عليه العلاقة الأمريكية الصينية طوال الأربعين عاماً الماضية، وبعدها اضطر ترامب في عام 2017 لإعلان تمسكه بالمبدأ الأساسي للسياسة الأمريكية تجاه الصين، من بعد لقائه بالرئيس الصيني.
لقد أثبتت التجارب الخاصة بسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في علاقاتها بالدول الأخرى، أن الغموض والتناقضات لم تكن أبداً في صالحها؛ لأن الحيرة في تفسير هذه السياسة وعدم فهمها، يضعفان من النظرة إلى أمريكا كقيادة عالمية يعتمد عليها.