ضرب من العبث
حلمي النمنم
لا تُنسب الثورات المصرية وحدها إلى الخارج، هناك مَن ينسبون كل شىء يقع هنا، بيننا نحن وبأيدينا، إلى الخارج، ويعولون على الأجنبى سلبًا وإيجابًا. فى مطلع القرن العشرين اعتمد جناح مهم فى الحركة الوطنية على فرنسا فى جلاء بريطانيا عن مصر، عن تصور أن هناك عداءً تامًّا بين بريطانيا وفرنسا. كان الزعيم مصطفى كامل على رأس ذلك الجناح، ولعل هذا ما دفع الكاتب والمؤرخ الرائد جورجى زيدان إلى أن يكتب دراسة معمقة، وينشرها فى مجلته «الهلال»، سنة ١٩٠٠، بعنوان: «ما هو الاستقلال الحقيقى؟»، حيث غاص فى التاريخ المصرى منذ الاحتلال الرومانى حتى اللحظة التى عاشها كى يثبت تهافت نظرية الاعتماد على الأجنبى فى نَيْل الحرية وطرد المحتل، ويخلص زيدان إلى القول «إن الالتجاء إلى دولة أجنبية التماسًا للاستقلال ضرب من العبث، فاستنهاض الهمم وإثارة العواطف فى هذا السبيل لا يخلوان من العواقب الوخيمة بغير فائدة تُرجى». من حسن الحظ أن مصطفى كامل نفسه تأكد من ذلك سنة ١٩٠٤ حين تم توقيع الاتفاق الودى بين فرنسا وبريطانيا، وتفاهما على كل شىء.
ربما كان الدرس الأقسى فى تاريخنا الحديث أيام الثورة العرابية حينما اعتمد الخديو محمد توفيق على بريطانيا لحمايته من عرابى ورفاقه، وكان قد تردد أن العرابيين بصدد عزل توفيق وإعلان الجمهورية، فجاء الأسطول البريطانى، وأزاحوا عرابى ومَن معه، قاموا بتدمير الجيش المصرى، ثم اتخذوا قرارًا بحله، وأعادوا تشكيله من جديد ليصبح أقرب إلى قوة بوليس ضعيفة، وطمأنوا الخديو، الذى كان جالسًا على العرش منذ ثلاث سنوات، لكنهم فى المقابل احتلوا مصر، ورفضوا الخروج، رغم تصريحاتهم المسبقة بأنهم جاءوا لحفظ الأمن وحماية عرش الخديو «الشرعى»، ثم يغادرون سريعًا. قالوا إنهم سوف يخرجون، بحد أقصى سنة ١٨٨٤، لكنهم ماطلوا وكذبوا. فى الأخير أمسك الاحتلال بخناق الجميع بدءًا بالخديو نفسه، الذى تحول من حاكم دولة يجب ألا يُستهان بها ليصير أقرب إلى موظف صغير يأتمر بتوجيهات وقرارات لورد كرومر.
فى حالة الثورات، بعض الذين يرغبون فى القيام بثورة، وكأن الثورة موضة أو سهرة حالمة، يمكن القيام بها فى أى لحظة وكل وقت، بعض هؤلاء يرقبون علاقة إحدى القوى العظمى بالدولة المصرية، ويتصورون أنها متحكمة فى كل كبيرة وصغيرة وأصغر، خاصة المجىء بالحاكم وإنهاء حكمه بأى طريقة، فيعولون عليها فى إشعال ومساندة الثورة التى يتطلعون إليها.
فى الداخل لدينا مَن يتخوفون من الثورات أو يكرهونها، وربما يمقتون كل ما ومَن ينتمى إلى أى ثورة، وكلٌّ لديه أسبابه ومبرراته، خاصة الخوف من الفوضى والعنف وما يترتب عليهما، هؤلاء يقعون فى الخطأ نفسه، وإن كان معكوسًا، إذ يتصورون أن الثورة بالمطلق ليست سوى مؤامرة أجنبية لتخريب البلاد وهدم مؤسساتها وإسالة الدماء.
لا يقتصر الأمر على الثورات ولا القضايا الوطنية الكبرى، بل يمتد حتى إلى الأمور البسيطة فعلًا، بيننا مَن يتصور أن كل شىء هنا ويتعلق بنا يعود إلى الخارج والأجنبى. فى سنوات التسعينيات الأولى ومع اتساع موجة الإرهاب وقتها، كنت ضمن عدد من الزملاء نقوم بالتغطية الميدانية لتلك العمليات، كانت محفوفة بالكثير من المخاطر، ونحن نعرف ونرى الكثير، فضلًا عن الإلمام بخلفية بعض الوقائع، وإذا ببعض الزملاء وقتها- المتنفذين صحفيًّا وإعلاميًّا- يرفضون كل ما نراه وما نقدمه لأن تقريرًا نُشر فى صحيفة إنجليزية أو أمريكية، كتبه محرر قد لا يكون جاء إلى مصر مرة، يقول بشىء آخر، ولما كنا نناقش هؤلاء يُقال لك: التايمز أو النيوزويك أو أو قالت كذا. والحق أن بعض هذه الصحف «الأجنبية» كانت تعتمد أحيانًا على بعض ما يقوله المحررون المصريون، الذين كانوا فى موقع الحدث، لكن بعض المتنفذين هنا كانوا بخيالهم وتطلعاتهم هناك. وإذا كان الحال على هذا النحو بين بعض النخب المهنية وغيرهم فى أمر مثل ذلك الشأن المهنى، فماذا عن الآخرين؟.
هذا التعويل على الأجنبى ينطوى على مخاطر عدة، من أهمها فقدان الثقة بالذات الوطنية والقومية، ونسبة العجز عن الفعل إلينا، بما يجعلنا نتخوف من كل خطوة ومن أى شىء، باختصار نفتقد القدرة على المبادرة والتحرك، وإذا تحركنا وأنجزنا شيئًا يتم التشكيك فيه وإثارة الإحباط حوله، أما إذا اعترف العالم بإنجاز لنا، تمت نسبته إلى آخرين غيرنا، أو التشكيك فى جدواه، وربما فى حدوثه. النموذج الأبرز هو عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف يوم السادس من أكتوبر ١٩٧٣، فقد أرجعه كاتب كبير إلى مؤامرة دبرها السادات مع هنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكى، وفى الخلفية رئيسة وزراء إسرائيل، لم يكن ذلك الكاتب الكبير وحيدًا فى هذا التصور. هناك آخرون قالوا ما هو أنكى من ذلك، دون ذرة من احترام لجهد خارق بُذل على مدى سنوات وشعب تحمل الكثير ودماء زكية سالت وشهداء قدموا أرواحهم فداء لهذا الوطن.
وهناك مَن لم يقولوا بالمؤامرة ولا شكّكوا فى الانتصار، لكنهم من شدة الذهول والاستناد على عجزنا عن الفعل والإنجاز الكبير، نسبوا النصر إلى قوى خفية ومعجزة خارقة. استكثروا على جنودنا وقواتنا تلك العبقرية.
غير حرب أكتوبر، لدينا بناء السد العالى، كانت هناك معركة سياسية لبنائه، حيث أحجم الغرب عن مساعدتنا، لكن القرار المصرى تحدى هذا الإحجام، وأمكن تدبير الأمر مع الاتحاد السوفيتى، وشرعنا فى البناء واكتمل، هنا اندفعت عملية تشكيك ضخمة فى فكرة وجود السد ذاته، مثل أنه سيحجز الطمى بما يؤدى إلى نحر الشطآن، ويهدد المدن على النيل بالتآكل والسقوط، وينزع من التربة المصرية خصوبتها، ويزيد نسبة الإصابة بالبلهارسيا وووو، بلغ الأمر بهؤلاء أن خرج منهم مَن يطالب بضرورة هدم السد العالى إنقاذًا لمصر.
اليوم، مضى على اكتمال بناء السد (٥٣) عامًا، ولم يحدث أى شىء من كل الذى قيل عنه، القضية ببساطة أن هناك طرفًا أجنبيًّا راهن عليه هؤلاء، هذا الطرف رفض مساعدتنا، أقصد الولايات المتحدة وبريطانيا تحديدًا، هما لم تُشككا فى جدوى السد ولا فى أهميته لمصر، كل من الدولتين أقرّت بأهمية المشروع للتنمية فى مصر. شكّكتا فى قدرة المالية المصرية على تحمل تكلفته، والقيام بأعبائه، كان موقفهما ضغطًا على السياسة المصرية كى تنجز اتفاقًا للسلام مع إسرائيل أولًا، لكن دعاة فكرة أن الأجنبى هو كل شىء راحوا يخترعون ويتخيلون أمورًا دون سند علمى حقيقى، فخلطوا الأيديولوجى والسياسى بما ينبغى أن يكون وفق أسس وبحث علمى.
دعنا الآن من الخلاف السياسى، فهو مطلوب، لكن كل هذا مرجعه افتقاد عميق للثقة فى قدرتنا كمصريين على الفعل والإنجاز، الفعل والإنجاز لدى هؤلاء وقف على الأجنبى وبيده، هو مَن يفعل لنا وبنا.
لا يقف هذا التصور فى النظر إلى الدولة ومؤسساتها، بل يمتد كذلك إلى الأفراد المتميزين والمبدعين.
الحالة الدالة هى فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل فى الآداب سنة ١٩٨٨، تقرير الجائزة يقطع أن الجائزة تأخرت عليه لمدة ثلاثين عامًا، ذكر التقرير الثلاثية وبعض روايات الأربعينيات، بالإضافة إلى (أولاد حارتنا)، صدرت سنة ١٩٥٩، رغم ذلك خرج مَن يقولون بملء الصوت لولا إسرائيل لما فاز بها. إنجاز محفوظ الروائى يضمن له أكثر من جائزة، لا يقف الأمر عند محفوظ، لكنه امتد إلى آخرين فى مجالات مغايرة، لنتذكر لحظة فوز د. بطرس بطرس غالى بمنصب أمين عام الأمم المتحدة سنة ١٩٩١، ارتفعت النبرة نفسها التى ترددت عند فوز نجيب محفوظ، فى تجاهل تام لقدرات الرجل وكفاءته قياسًا على مَن كانوا ينافسونه. مَن عايش تلك اللحظة ويعرف تفاصيل ترشح د. بطرس وفوزه يعلم يقينًا خطأ كل ما تردد وقتها، كتابة أو فى مجالس النميمة.
يرتبط بفقدان الثقة فى الذات الوطنية والإنسانية وقدرتنا على الفعل والمبادرة الخوف والقلق التام والمطلق من الأجنبى واعتباره متآمرًا علينا طوال الوقت، معاديًا لنا، الأمر الذى يمكن أن يسمم علاقتنا بالآخرين، وهذا خطر على بلد مثل مصر، نحن جزء من إفريقيا ومن آسيا ومن دول حوض «المتوسط»، فضلًا عن ارتباطنا بالعالم العربى؛ ولدينا قناة السويس، وتاريخ قديم يعلم الإنسانية، ومؤسسات دولية مثل الأزهر الشريف وكنيسة الإسكندرية وأيضًا مكتبة الإسكندرية، باختصار لا يمكن لنا أن ننعزل عن العالم.
فى المقابل، هناك التيار المضاد، وهم أولئك الذين يراهنون على الخارج فى كل أمر، مهما كان صغيرًا وبسيطًا، ومن هؤلاء الذين يستقوون بالخارج ويستعدونه علينا، وهؤلاء بين ساذج أو برىء، حسن النية بأكثر مما ينبغى، أو يعيش وهمًا كبيرًا، وبينهم بالتأكيد مَن هم على شاكلة العراقى البغيض أحمد الجلبى.
والحديث ممتد.
*نقلاً عن “المصري اليوم“