عاصمة العواصم
خيري منصور
العاصمة في لغتنا العربية ليست مجرد مدينة أو حاضرة؛ لأنها مشتقة من العصمة، فكيف حين تكون العاصمة هي القدس. سُرة هذا الكوكب وسِرُّه أيضاً؟ فما من مدينة في التاريخ شهدت من الغزاة والدماء ما شهدت، بحيث غاصت السيقان فيها حتى الركب بالدم!
وكل حجر أو حصاة فيها يمهرها تاريخ يحصى بالألفيات لا بالأعوام والأيام.
وهي ليست عاصمة فلسطين بالمعنى الجغرافي الضيق، بقدر ما هي عاصمة العرب والمسلمين والمسيحيين على امتداد هذا العالم، وقد اتسعت ذات يوم لتصبح بمساحة العالم كله، ولم يكن المقدسيون هم وحدهم أهلها؛ لأنها مسقط روح كما هي مسقط رأس.
ولأن مساحتها التاريخية والسماوية لا تقاس بالأمتار أو الأقدام!
وحين أعلن الرئيس الأمريكي ترامب أنه أجّل النظر في ملف القدس ونقل السفارة من «تل أبيب» إليها لستة أشهر كان لديه أسباب منها المعلن والمخفي، لكن المخفي أعظم وهو قياس منسوب ردود الفعل لدى العرب من خلال اختبارات أولية، وحين وجد أن ردود الفعل ليست مساوية للفعل بالقوة أو مضادة له في الاتجاه عاد ليطرح الأمر مجدداً! ولديه بالتأكيد فكرة مسبقة عن كل ما يمكن أن يفعله العرب إذا تم نقل السفارة الأمريكية من «تل أبيب» إلى القدس.
الإجابة محفوظة عن ظهر قلب، فثمة انتهاكات تعاقبت على مدار ستة عقود منها ما طال المقدسات مرت من دون مصدات؛ لأن الشجب اللفظي ممنوع من الصرف، والكلام كما يقال بالمجان، خصوصاً في عصر فقدت فيه اللغة دلالاتها!
والرؤساء الذين ارتدوا الطاقية وانحنوا أمام حائط المبكى، ومنهم من ذرف الدموع لم يلتفتوا إلى الجانب الآخر حيث الأقصى يتصدع ويوشك على الانهيار وتشمل العبرنة حتى الأطلال.
وإذا حدث ما خشيه العرب وانتظرته «تل أبيب» طويلاً، فإن أعز مقدسات العرب ستصبح في خبر كان، وكما يعاد رسم تضاريس الجغرافيا وخطوط طولها وعرضها فإن التاريخ أيضاً سيعاد إنتاجه والأمر جلل يتجاوز نقل سفارة إلى نقل حقوق وهدر تاريخ!