قضايا ودراسات

عالم اليوم في نظر دبلوماسي مخضرم

جميل مطر

جمعتنا سهرة ممتعة. كنا مجموعة أفراد من جنسيات مختلفة متابعين للشؤون الدولية. بيننا من عمل طويلاً أو عابراً في حقل الدبلوماسية وتقاعد ولم يبتعد عن الملاحظة والمتابعة. بيننا أيضاً ممارسون للدبلوماسية لا يزالون عند منتصف الطريق وإعلاميون رافقوا مسيرات وتحوّلات سياسية عظمى. أحد هؤلاء عرض رؤيته لحال إحدى أهم وزارات الخارجية في العالم، وهي وزارة الخارجية الأمريكية. قال إن هذه الوزارة العتيدة بتاريخها المعروف ودورها المشهود في صنع وتنفيذ السياسة الخارجية لدولة عاشت عظمى لفترة سبعين عاماً أو أكثر، هي الآن في حال كمون، بعد أن تنازلت طوعاً أو قسراً عن بعض وظائفها لأجهزة أخرى في الدولة الأمريكية. وُجد بيننا صديق مخضرم في العمل الدبلوماسي، اعتبرناه دوماً مرجعنا في المعلومات عن خفايا العلاقات بين الدول وما أكثرها، واعتمدناه محللاً موضوعياً ومتزناً ومتوازناً لقضايا وأزمات دولية معقّدة أو متفجّرة. طلب التعليق على رؤية الزميل الذي تحدّث عن الحال التعيسة التي انحدرت إليها وزارة الخارجية الأمريكية.
أثنى الدبلوماسي المخضرم على هذه الرؤية، مؤكداً أن حال الخارجية الأمريكية في ظل حكومة الرئيس دونالد ترامب تستحق منا جميعاً الاهتمام. يجب أن نعترف بداية أنها ليست المرة الأولى التي تمتد فيها أيادي أجهزة أخرى في الدولة الأمريكية لتعبث في شؤون أمريكا الخارجية، سعياً وراء صنع سياسات أفضل أو التنفيذ بأساليب أكفأ وأسرع. ولا شك أن تجربة كل من هنري كيسنجر في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون وزبيجنيو برجنسكي في عهد الرئيس جيمي كارتر- عندما نقلا ثقل العمل الدبلوماسي الأمريكي من وزارة الخارجية إلى مجلس الأمن القومي- لا تزال حيّة في ذاكرتنا. يجب أيضاً الاعتراف بأن واشنطن ليست الوحيدة في عالمنا المعاصر التي قررت تنحية وزارة الخارجية عن أداء بعض أهم مهامها. واقع الحال يعلن صراحة أن عدداً كبيراً ومتزايداً من العواصم اتخذ القرار ذاته، إما تقليداً أعمى للقرار الأمريكي أو تماشياً مع تطورات أخرى داخلية وخارجية استدعت الاستغناء المؤقت عن دور أو آخر تخصصت فيه وزارات الخارجية.
أضاف يقول: إن تطورات مهمّة دفعت إلى انحسار دور وزارات الخارجية وأهميتها، وربما أخّرت مرتبتها في سلّم ومراتب مؤسسات الحكم. وقد لا تكون جلستنا الليلة المناسبة الأفضل للتركيز على موضوع وزارات الخارجية، قبل أن نعرض لأهم القضايا والتحوّلات التي غيّرت وجه العالم كله تغييراً جذرياً. دعونا نعترف أولاً بأن الفساد بكل أطيافه وأبعاده صار عنصراً حاكماً في عالم اليوم. كان دائماً موجوداً وكلنا كدبلوماسيين وضعناه في اعتبارنا ولم نستبعده تماماً ونحن نتابع ونحلل، لكنه لم يكن في أي يوم متوحشاً وشرساً كما هو الآن. كان الرئيس الأمريكي وأعوانه يتلقّون هدايا أثناء وبعد زياراتهم الرسمية والخاصة، وكانوا يبلّغون عنها فور وصولهم إلى واشنطن، لتودع في مكانها المناسب. هم الآن يتلقّون هدايا سمعنا أنها أثمن كثيراً من هدايا الماضي، وسمعنا أنها لم يبلّغ عنها واحتفظ بها المسؤولون الذين زاروا وتلقّوا الهدايا. تجاربنا في الدبلوماسية علّمتنا أن الهدايا الباهظة القيّمة، يجب أن نحسبها على مقدّميها ومتلقيها كنوع من الرشوة، فهي بلا شك تفرض الالتزام بمقابل. بمعنى آخر هي مقايضة أو صفقة مادية الشكل سياسية الهدف، أي من صميم العلاقات بين الدول.
أشار الزميل أيضاً إلى حقيقة أن دولة بعد أخرى في عالم اليوم، صارت تخضع لشكل أو آخر من أشكال الحكم الشعبوي أو تهدد استقرارها تيارات من هذا النوع. لهذا الشكل من أشكال الحكم أسلوبه الخاص في صياغة خطابه السياسي الناطق والمطبوع على حد سواء. لم يعد سراً الوفاق الناقص الذي يخيّم منذ فترة على العلاقات بين الدبلوماسيين والإعلاميين المخضرمين من ناحية وبين المسؤولين الحاكمين من ناحية أخرى. يعتقد الطرفان أن السبب الأساسي لنقص الوفاق، هو أن للشعبوية الحاكمة لغة لا يجيدها التقليديون وأنصار الديمقراطية الليبرالية وأصدقاء العالمية، بمفهومها السائد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ونشأة منظومة الأمم المتحدة. سمعنا مسؤولين شعبويين عديدين في بولندا وإيطاليا وإنجلترا وألمانيا ومعظم دول الشرق الأوسط، سمعناهم يستنكرون النقص في وطنية دبلوماسيين وإعلاميين وجامعيين. هؤلاء ظلّوا يتمسكون بلغتهم رغم أن العالم بأسره، في رأيهم، يكاد ينطق بلغة العصر. لغة يجيد استخدامها جون بولتون وستيف بانون وبنيامين نتنياهو وإعلاميون جدد في دول عربية.
استطرد الزميل المخضرم في العمل الدبلوماسي، مضيفاً إلى الفساد المستشري بوحشية والشعبوية الزاحفة، معالم أخرى من العالم الجديد الذي نعيش فيه، يتصدر هذه المعالم الأخرى ميل عام جديد في كافة الدول نحو اليمين. تعرفون يا أصدقائي أن الدبلوماسية بحكم التعريف لا يقربها غير المحافظين. وقع على أغلبنا الاتهام من جانب حكام ومفكرين يساريين في كافة مواقع عملنا بأننا من فصائل التخلّف السياسي والرجعية الأيديولوجية. أتت فترات وقع بعضنا تحت اتهام عكسي. اتهموا هذا البعض، وبينهم كبار وصغار في السن، بأن فيهم من يدافع عن المفوضية الأوروبية في بروكسل ضد مصلحة بلده التي هي إنجلترا أو إسبانيا، وفيهم من صعقته وأضعفت كفاءته جحافل اليمين الزاحف ليحتل كافة منابر السلطة والاقتصاد والثقافة والدين في المجتمع. العالم، يا أصدقائي، هو الآن أشد يمينية من كل اتهام ابتلينا به، عندما كان اليسار الماركسي يهيمن أو يحاول فرض الهيمنة. اليمين- متطرفاً باتزان أم متشدداً بوحشية- نراه في عالم اليوم محاطاً بالفساد وشعبويات الحكم ومعالم أخرى في سعي جسور نحو تحقيق عالم جديد تتكامل لتشكيله هذه المعالم.
ويستمر النقاش، فالليلة لا تزال في بدايتها.

زر الذهاب إلى الأعلى