قضايا ودراسات

عالم «ما بعد أمريكا» يجرب نفسه

جميل مطر

لن أقول إن قمة العشرين التي انعقدت نهاية الأسبوع الماضي في هامبورج مختلفة عن سابقاتها من قمم العقد الأخير. لعلها فيما أعتقد تشابهت مع سابقاتها أكثر مما اختلفت. إذ رأيت في الأجواء التي سبقت انعقادها وساهمت في التحضير لها ما أراه عادة في القمم المماثلة، رأيت تحركات، اعتبرتها مؤشرات ذات مغزى، بعضها يدفع إلى الظن في أن المؤتمر قد يسفر عن تطور مثير أو على الأقل يثير نقاشاً مهماً.
رأيت مثلاً الرئيس الصيني ورئيس وزرائه يزوران ألمانيا ثلاث مرات خلال فترة قصيرة جداً. يستطيع مراقب دقيق التعليق بأن القيادة الصينية كانت حريصة على أن تشارك ألمانيا في وضع أجندة القمة. كلتاهما، ألمانيا والصين، وحدهما بين الكبار، أو ربما مع فرنسا، تشعر بخطورة التهديد المتربص بالعولمة. أمريكا، القطب الأعظم في النظام الرأسمالي العالمي، تعلن على لسان رئيسها أنها كانت ضحية العولمة. العولمة، في نظر ترامب والتيار الذي يقوده داخل اليمين الأمريكي، كانت حتى الآن علاقة بين فائز وخاسر، وأمريكا خرجت منها طرفاً خاسراً. ميركل، على العكس، ترى أن العولمة كانت بين فائز وفائز، فمن خسر في قطاع عوض الخسارة بفوز في قطاع آخر. المهم في نظرها أن يفلح أنصار العولمة في هذا المؤتمر في إقناع الرئيس ترامب بألا يفرض ضرائب جديدة على السلع والمنتجات المستوردة من أوروبا والصين. مهم أيضاً أن تنجح ميركل وماكرون وبمساعدة من الرئيس الصيني في منع توحد الزعيمين الأمريكي والروسي نحو تكثيف جهود بلديهما في اتجاه محاربة العولمة.
بدت الأجواء المحيطة باستعدادات عقد المؤتمر ملبدة بغيوم كثيفة، غيوم النية الأمريكية المعقودة على شن حرب تجارية تحت شعار «أمريكا أولاً»، وغيوم النية الروسية التي تسعى إلى توسيع الفجوة بين أوروبا وأمريكا والمحافظة لأطول مدة ممكنة على الحال الراهنة للمعسكر الغربي، غرب دون أمريكا قائداً فاعلاً أو مسيراً حكيماً. كان الشائع في أوروبا حتى ليلة انعقاد المؤتمر أن الصين عرضت على ميركل مشروع قيادة ثنائية. استند من أشاعوا الخبر إلى مقال بتوقيع الرئيس الصيني نشرته صحيفة «دي فيلت» الألمانية جاء فيه قوله: إن ألمانيا والصين تساهمان معاً في أمن واستقرار ورخاء دول جوارهما إذا تعاونتا معاً في تنفيذ مشروع «حزام واحد وطريق واحد». لاحظنا وقتها أنه اختار ألمانيا شريكاً ولم يختر الاتحاد الأوروبي، على غير ما فعلت اليابان. لاحظنا أيضا بعض ردود الفعل الأوروبية خاصة تلك التي نبهت إلى أن العولمة كل متكامل، وبالتالي لا يمكن أن تقبل ميركل المشاركة في القيادة مع الصين التي لا تلتزم جوانب أخرى في العولمة ليست بأي حال أقل أهمية من الاقتصاد والتجارة، من هذه الجوانب الديمقراطية واحترام الحريات والحقوق.
احتوت أجندة المؤتمر كما صاغتها حكومة ميركل على البنود الخمسة التالية: الأمن والمناخ والطاقة والهجرة واستدامة التنمية. كانت آمالها كبيرة في نجاح المؤتمر واستثمار هذا النجاح في الانتخابات القادمة بعد شهرين. أرادت أن تدخل هذه الانتخابات بسمعة «امرأة العجائب»، أي المرأة الأقدر على تجاوز الصعاب خاصة تلك التي يتسبب فيها الرجال. فاجأتها قبل انعقاد المؤتمر أجواء غير مشجعة وطاقة سلبية نتيجة أفعال بعض القادة من زملائها. كان الرئيس ترامب قد ألقى للتو خطاباً في وارسو وهو في طريقه إلى ألمانيا. كان الخطاب من نوع القنابل العنقودية. هاجم إعلام وصحافة بلاده خاصة القناة التلفزيونية الأشهر. بهذا الهجوم جذب انتباه الإعلام الأوروبي بعيداً عن مؤتمر القمة والاستعدادات الجارية. تعمد الإشادة بحكومة وارسو المتشددة يمينياً والمتمردة على المبادئ الليبرالية التي تدعو ميركل إلى التمسك بها وتنوي أن تخصص لها مكاناً في بيان القمة.
أما الطاقة السلبية التي كانت محل ملاحظة بعض المراقبين فمسؤول عنها أيضاً وإلى حد كبير العلاقة الملتبسة بين الرئيسين بوتين وترامب كما كشفها اللقاء «الغريب شكلاً وإخراجاً وموضوعاً» الذي جمعهما على هامش المؤتمر. احتار الناس في فهم ما يحدث بينهما. هل ببالهما اقتسام النفوذ في العالم كعهدهما به في زمن القطبين؟ هل يقع الاتفاق الجانبي على هدنة في جنوب غربي سوريا في هذا الإطار؟ هل صحيح أن المؤسسة الأمريكية سمحت لترامب باللهو بعض الوقت وببعض الأشياء والمسائل الهامشية وفي بعض القضايا الخارجية لكن تحت رقابتها، فهي المؤسسة التي تعرف جيداً إمكانات رئيسها وهي في الوقت نفسه المؤسسة التي لا تطمئن إلى روسيا، خاصة روسيا التي يقودها فلاديمير بوتين الرئيس المخضرم والمدرب في أجهزة المخابرات والمعروف بدهائه، والمعروف أيضاً بأنه لم ولن يغفر لأمريكا ما فعلته ببلاده عقب سقوط الشيوعية، وبأنه سوف ينتقم مهما طال الوقت.
انتهت أعمال المؤتمر دون أن يصحب النهاية صخب وتهليل. غادر ترامب مخلفاً وراءه غضباً أوروبياً وإصراراً على متابعة تنفيذ توصية ميركل بضرورة أن تعتمد أوروبا على نفسها ولا تنتظر من أمريكا قيادة أو تسييراً. عاد إلى واشنطن ممثلو المؤسسة الحاكمة أشد حرصاً على إصلاح أي ضرر يكون قد أصاب المصالح الأمريكية نتيجة بعض قناعات ترامب، ومنها على سبيل المثال نيته في عمل استخباراتي مشترك مع حكومة الرئيس بوتين. كانت القمة في بعض جوانبها كاشفة لحال الارتباك في علاقة الرئاسة الأمريكية بأجهزة الحكم الأخرى، وكاشفة في الوقت نفسه عن تغيرات واضحة في تراتيب القوة الدولية: تراجع شديد لمكانة المملكة المتحدة وتقدم شديد أيضاً لمكانة الصين واليابان وأدوار جديدة للقطب الروسي وانحسار منتظم لمكانة الولايات المتحدة، وعدم استقرار خطير في الشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية وإفريقيا وجنوب شرق آسيا.

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى