قضايا ودراسات

عندما تتباعد ضفتا الأطلسي

عاصم عبد الخالق
من المبكر للغاية قبول التكهنات المتعجلة بشأن تصدع التحالف الاستراتيجي الوثيق بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومن الخطأ الاستسلام إلى حديث «النهايات» الذي يروجه من يتوقعون أو يخشون أو يتمنون انهيار التحالف التاريخي. هذه الاستنتاجات الخطيرة فرضتها الحرب الكلامية غير المسبوقة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمستشارة الألمانية إنجيلا ميركل قبل أيام.
النقاش حول مصير التحالف التاريخي ليس جديداً. والمخاوف الغربية من تباعد حقيقي بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قائمة منذ فترة ليست بالقصيرة، إلا أنها تضاعفت بعد انتخاب ترامب.
خلال قمتي حلف الناتو ومجموعة الدول السبع أخيراً ظهر جلياً حجم التصدع في الشراكة على جانبي الأطلسي. وبدا بوضوح أن إرهاصات مرحلة جديدة تولد من رحم الخلافات الحادة بين الجانبين. أشعلت تصريحات ترامب هواجس الأوروبيين لاسيما الألمان والفرنسيين. وعكست عمق الهوة حول قضايا أساسية مثل التجارة والبيئة واللاجئين والعلاقات مع روسيا.
أعاد ترامب تذكير الشركاء بأنهم لم يسددوا ما عليهم لميزانية الناتو وأن هذا الوضع لن يستمر. أثار القلق برفضه الالتزام بالبند الخامس من معاهدة الحلف القاضي باعتبار الاعتداء على أي عضو اعتداء على الآخرين. ثم صدم الجميع بالانسحاب من اتفاقيات باريس للمناخ. اختص ترامب ألمانيا بجانب وافر من انتقاداته بسبب العجز التجاري معها وإغراق الأسواق الأمريكية بالسيارات الألمانية.
لم ينس الأوروبيون سعادة ترامب بخروج بريطانيا من الاتحاد. ولابد أنهم يتذكرون كذلك رغبته المعلنة في أن تحذو حذوها دول أخرى. وله تصريح قديم كثيراً ما يستدعيه الإعلام الأوروبي يصف فيه بروكسل وهي مقر الاتحاد والناتو بأنها فوهة الجحيم.
تفسر هذه المخاوف لماذا كان رد ميركل حاداً وواضحاً وهي تعلن أن زمن الاعتماد الأوروبي على الغير قد ولى. وأن القارة ستأخذ مصيرها بيدها ولم يعد بوسعها الاعتماد على الصديقين الأمريكي والبريطاني. تحلت ميركل بالكثير من الدبلوماسية وهي تعبر عن غضبها من الشريك الأمريكي إلا أن وزير خارجيتها سيجمار جابرييل كان أقل كياسة وهو يعلن أن أمريكا سقطت كأمة مهمة. وبأن سياسات ترامب التي وصفها بقصيرة النظر أضعفت الغرب وأضرت بالمصالح الأوروبية.
ولم يطل انتظار الألمان للدعم الفرنسي الذي جاء عبر تصريحات لوزيرة الدفاع سيلفي جولارد التي أكدت أن مواقف وتصريحات ترامب تدعم التوجه نحو سياسة دفاعية أوروبية مشتركة. أي الخروج من العباءة الأمريكية.
ومن الواضح أن هذا هو الهدف الحقيقي الذي تسعى إليه ميركل الزعيمة الحقيقية لأوروبا، ليس بحثاً عن متاعب وأعباء جديدة ولكن تحسباً لتخلي أمريكا عن القارة. ومن المؤكد أن فوز ايمانويل ماكرون برئاسة فرنسا يقدم لها دعماً حقيقياً.
يمثل ماكرون بشخصه ومبادئه وشبابه النقيض الكامل لشخص ومبادئ ترامب. الرئيس الأمريكي رجل أعمال ونجم تلفزيوني متمرس. في المقابل فإن نظيره الفرنسي خبير تكنوقراطي اعتاد على العمل بعيداً عن الأضواء. يدعم ماكرون بقوة الاتحاد الأوروبي، في حين يشجع ترامب الانفصال عنه. وإذا كان ترامب يميل لمزيد من الانعزالية بحثاً عن المصالح الأمريكية أولاً، فإن ماكرون يؤمن بالتواصل الحضاري والعولمة ويدعو إلى إصلاحها وليس مقاومتها. يرفض ترامب اللاجئين والمهاجرين ويعتبرهم خطراً داهماً، ويدعم بناء الجدران على الحدود وفرض إجراءات حماية تجارية. بينما يدافع ماكرون عن حرية التجارة، ويؤمن بالتعايش الحضاري ولا يقبل رفض الآخر لمجرد الاختلاف العقائدي أو العرقي.
لكل هذا فإن ماكرون هو الرجل المناسب في المكان المناسب والزمان المناسبين الذي انتظرته ميركل. لا يعني هذا أنهما سيسعيان لتفكيك التحالف الأوروبي الأمريكي الوطيد، ولكن من المؤكد أنها سيسهمان في إعادة صياغته، مع رسم خريطة جديدة للنظام الأوروبي في غياب بريطانيا.
أخيراً فإن الأوروبيين الذين اكتووا بنيران التعصب والعنصرية يرون في ماكرون بشارة للمستقبل الذي ينشدونه.

assemka15@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى