مقالات عامة

غير المفكَّر فيه

د. حسن مدن

إلى سببين يمكن أن نعزو ما الذي يجعل كثيراً من الأمور غير مفكر فيها، أي أنها لم تخضع للدراسة والبحث والتحليل من أجل فهم جوهرها وتمهيد الطريق لتوظيف النتائج المستخلصة من ذلك في إنارتنا نحو الأفضل.
السبب الأول يعود إلى نقص المعرفة، فالبشرية غالباً لا تضع أمام نفسها إلا تلك المهام التي نضجت ظروفها، والمعرفة نهر ممتد لها منبع ولكن ليس لها مصب نهائي كذاك الذي للأنهار الموجودة في الطبيعة، فنهر المعرفة مستمر في الجريان نحو المطلق، نحو اللانهائي، وهو في هذا الجريان يتغذى بالجديد والتجارب والخبرات، وليس من شأن عقول جيل من أجيال البشرية أن يحيط بالمعرفة، الكلية، المطلقة، لكنه يقدم إسهامه في إثرائها بما لم يكن فيها قبله.
حتى أكثر أدمغة البشرية عبقرية ليس بوسعها أن تفعل أكثر من مقاربة الأمور التي نضجت ظروف فهمها ومعالجتها، مع أنه من الصحيح أيضاً أن قدرات أدمغة هؤلاء العباقرة تتفاوت بين عقل وآخر، ومن بينها تلك العقول التي ترى أبعد وأشمل، وتستطيع أن تستشرف جوانب من المستقبل، بما في ذلك المستقبل البعيد، لكن ليس بوسعها أن تحيط بكل هذه الجوانب.
لكن بين غير المفكر فيه قسم من الأمور التي لا يعود عدم إمعان الفكر فيها إلى نقص معرفة البشر وإدراكهم عن فهمها والإحاطة بها، وإنما إلى عامل آخر من صنع البشر أنفسهم، حين يقرر النافذون منهم وضع جملة من المسائل في خانة ما لا يجب التفكير فيه، أي حظر الاقتراب من معالجته ودراسته وتشخيصه، ومن هنا نشأت لدى الأقوام المختلفة، عبر الحقب الزمنية المختلفة أيضاً، ما بات يطلق عليه «التابوهات».
وكلما كثرت هذه «التابوهات» في المجتمع كلما تعثر تقدمه وولوجه دروب الحداثة والنهضة والتقدم، وأعيقت فيه حرية العقل وعطلت فيه الكثير من قدرات الأفراد التي تزداد حيوية وانطلاقاً كلما اتسعت مساحات الحرية والإبداع، فيغتني رافد المعرفة الجاري في المجتمع المعني والمؤدي إلى نهر المعرفة البشرية الكبير الذاهب، وبدون توقف، كما أسلفنا نحو المطلق واللا نهائي.
«التابوهات» التي صنعها البشر ليقيدوا أنفسهم فيها، أو بها هي ما يجعل المجتمعات تراوح في المكان نفسه، تلوك الكلام نفسه، وتجتر «المُسَلمات» نفسها، لذلك فإنها لا تبارح دائرة التخلف، لأن من طبيعة المعرفة، حتى تكون جديرة بأن يطلق عليها هذا المسمى، إخضاع ما نحسبه «مسلمات»، ونقصد هنا المسلمات الفكرية بدرجة أساسية، للمساءلة والتدقيق بين مرحلة وأخرى، كي نرى ما إذا كانت ما زالت مسلمات بالفعل أم أن المعرفة تخطتها، وربما لنكتشف أيضاً أنها منذ البدء لم تكن «مسلمات» بالمفهوم العلمي، وإنما نحن من أضفى هذه الصفة عليها، وحلنا دون أن يقترب منها أحد ليخضعها للمساءلة.

madanbahrain@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى