قضايا ودراسات

فرنسا وماهية القيم

محمد خليفة
جاء تشكيل الحكومة الفرنسية في عهد الرئيس الجديد ماكرون كما كان متوقعاً، فقد شُكّلت بما يتوافق مع متطلبات السياق السياسي الفرنسي وتعقيداته، لذلك حملت الحكومة الجديدة برئاسة إدوار فليب الكثير من الدلالات الجديرة بالتساؤل والتفكير. فمن العجيب في تشكيل الحكومة جمعها لكافة متناقضات المجال السياسي الفرنسي، من يمين ويسار، ووسط ومستقلين، وممثلين للمجتمع المدني. وبهذا يكون رئيس الجمهورية قد كرس ممارسة سياسية جديدة لم تشهد مثلها الجمهورية الخامسة منذ عام 1958، وهي ظاهرة وجود حكومة من دون لون سياسي، فاليمين واليسار اللذان يتعاقبان على حكم فرنسا قرابة ستة عقود لم يعد لهما وجود، وبذلك كسر تقاليد الجمهورية بإضعاف اليمين واليسار معاً، ما قد يُسهم في إعادة تشكيل الحياة السياسية في فرنسا، لأن تميز هذا الوجود البشري بالتنوع والتعدد يجعل مبدأ الاختلاف معياراً مؤسساً لكل صيغ التفاعل الإنساني، حتى وإن كان هذا المبدأ محركاً فاعلاً لتاريخ الصراعات بالنظر العقلي، وتفكيك وزعزعة قيمة المعاني اليقينية المحسوبة في جوهر الإنسان، وبكل مفاصله، ذلك أن محاسن التغيير والتفكير في الوجود الإنساني، هو الاختلاف على وحدانية العالم والبرهنة على تناهي العلية والمعتقدات الموروثة، كما يصفه المفكر نيتشه، ليس هذا الوجود المحكوم بالاختلاف سوى علامة على أن التعدد والتنوع في ظل هذا الاختلاف عنوان للثراء الوجودي للإنسان في هذا العصر، وسياق التفاعل مع التحديات الكونية، وبالأخص فرنسا والعالم والإنسانية المشتركة في الإجابة على الأسئلة الكبرى في مجال الليبرالية وتحديات الرأسمالية المتوحشة في العالم.
ولكن في غمرة هذه الهواجس، التي تكمن في التفاعل مع الثورة الرقمية والتحديات الأخلاقية ذات الصلة بالثورة الرقمية، يظهر مقال، طُرِح فيما بعد في كتاب، «الإنسان العادي» للمفكرَين الفرنسيَين مارك دوجان وكريستوف لابي، والذي يستعرض الرهانات العالمية المرتبطة بالظاهرة في شقها الاقتصادي والمالي والعلمي، وتفكيك العقل التكنولوجي وتحديات القوة الإلكترونية، وعملية تفكيك الإنسان التي تكرسها الثورة الرقمية، وتشمل عملية التفكيك هذه كل ما له علاقة بالإنسان: العقل والاقتصاد والمعتقدات.
وفرنسا، كما أشار هذان المفكران، تبدو منقسمة جداً بين الذين يعتقدون أن المستقبل يمكن أن يكون أفضل، وأولئك الذين يرون أن العودة إلى الماضي هي وحدها الكفيلة بإنقاذ فرنسا وهويتها، بعد أن يتم إعادة النظر في كل المبادئ التي تجمعهم، وعلى رأسها التغيير السياسي والعلمي، ويتمثل في شباب قادمين من كل الاتجاهات، لتوحيد البلاد من أجل مواجهة رهانات المستقبل.
ففي مقدمة كتاب الذاكرة: التاريخ، النسيان«يرى بول ريكور، وهو أحد أقطاب الفلسفة الظاهرية (الفينومينولوجية)، أن إيمانويل ماكرون، الذي أعد أطروحة عن فلسفة القانون لدى هيجل، لديه القدرة على تفكيك وإعادة تركيب المفاهيم والقيم، ومنح حياة جديدة لمفاهيم مثل التقدم والتقنية والعلم والسياسة والتاريخ، حيث استطاع أن يلتحق بالإيليزيه، ويبدأ مساراً معقداً ككاتب عام في مكتب الرئاسة الجمهورية، ثم وزيراً للاقتصاد والصناعة في حكومة فالس، حيث استطاع أن يقدم مشاريع القوانين، ويمسك بملفات المؤسسات الإنتاجية الكبرى، واستطاع أن يفكك الحجج اللاعقلانية التي يتذرع بها اليمين المتطرف الفرنسي، وحمل خطاباً مختلفاً عن خطاب مارين لوبان التي انهزمت في الانتخابات، بعد أن اعتمدت على النمط الانتخابي على الإيقاع الأمريكي المعهود إبان انتخاب ترامب، فأعجب ماكرون 21 مليون ناخب فرنسي، فحملوه على أكتافهم إلى قصر الإيليزيه بسبب سوسيولوجيا الانتخابات، فللمرة الأولى يصل شابٌّ، كأصغر رئيس فرنسي، إلى قصر الرئاسة كثامن رئيس للجمهورية.
ويبدو أن فرنسا مقبلة على تغييرات جذرية في نظرتها للقيادات السياسية العتيقة، والتي لم تعد تلبي طموحات الفرنسيين، ومع ذلك ستكون تحديات ماكرون هي نفسها وعلى رأسها استعادة الهيبة الفرنسية في مواجهة الإرهاب، وتجديد النموذج الاقتصادي الفرنسي ليكون قادراً على إنتاج الوظائف للفرنسيين.
ومن دون شك سيكون أداؤه داخل منظومة الاتحاد الأوروبي تحدياً من التحديات الكبرى التي تواجهه على الصعيدين المحلي والعالمي، خصوصاً أن الاستقطابات الجديدة داخل الدولة الفرنسية أصبحت ترتبط بالقضايا المجتمعية (الحرية الفردية والعلمانية)، أكثر مما ترتبط بالقضايا الاجتماعية والعدالة الاجتماعية. وهذا يعني أن أوروبا تنتقل من حالة صراع الإيديولوجيات إلى حالة صراع القيم؛ فالأطر الإيديولوجية التقليدية لم تعد قادرة على استيعاب الشرخ المتعلق بالقيم داخل المجتمعات الغربية، وبواقع التركيب بين الحرية السياسية والحرية الاقتصادية. وهذا ما أشار إليه الرئيس ماكرون بقوله: «العالم وأوروبا بحاجة الآن، أكثر من أي وقت مضى، إلى فرنسا قوية تدافع عن الحرية والتضامن»، وأضاف: نحن بحاجة إلى أوروبا أكثر فاعلية، وأكثر ديمقراطية، من خلال الممارسات السياسية غير المعزولة عن تطلعات الشعب إلى الكرامة والحرية، والسعي إلى المواقف الشوفينية المتطرفة، المعادية للقيم الديمقراطية، ومناهضة للحقوق والحريات، لأن فرنسا مهد الحرية ومركز الإنسانية.

med_khalifaa@hotmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى