قضايا ودراسات

فقدان المتن في السياسات العربية

تبدو الحكاية العربية، منذ نصف قرن على الأقل، حكاية مأساوية، عنوانها الرئيسي فقدان المتن في السياسات العربية. ولئن كان ثمة عنوان جامع حول القاسم المشترك الأكبر بين سياسات الدول العربية فهو التركيز على الأقل شأناً، وإهمال ما هو مهمّ ورئيسي في إحداث فارق ضروري ومطلوب في حاضر ومستقبل الشعوب، كما أن غياب الانتباه إلى ما هو مستجدّ في النظام الدولي، واقتصاد العولمة، والتعاطي معه بخفة، يجعلنا نقول من دون تردد إن مستقبل العالم العربي اليوم أكثر غموضاً من أي وقت مضى.
وإذا كانت فلسطين قد شكّلت لعقود قضية العرب المركزية فإن ما أنجز فيها ولها لا يكاد يرى بالعين المجردة، بل ثمة تراجع نوعي كبير حدث في التوافق على المبادئ الحاكمة للتعامل معها، كما أن الواقع العربي الذي كان -على الرغم من ضعفه- يشتمل على حدّ أدنى من التضامن، والعمل المشترك في سبيل القضية المركزية، لم يعد موجوداً اليوم، فخارطة العالم العربي نفسها لم تعد كما كانت، خصوصاً أن العديد من الدول العربية خرجت، بحكم ظروف مختلفة، من دائرة التأثير.
وعلى الرغم من انطلاق قطار التغيير في النظام الدولي من المحطة الاشتراكية مع مطلع التسعينات في القرن الماضي، وتكهّن تحليلات كثيرة بأن هذا القطار سيسير إلى أن يصل المنطقة العربية عاجلاً أم آجلاً، إلا أن النظم السياسية لم تأخذ ذلك المتغيّر الدولي بالحسبان، ولم تقرأ أسبابه الداخلية قبل الخارجية.
مع سقوط المنظومة الاشتراكية، أصبح واضحاً أن فكرة العدو الخارجي لم تعد كافية لاستمرار النظم الشمولية، وهو الأمر الذي ينطبق على معظم دول ما يسمى «الربيع العربي»، حيث لم تعد المواجهة مع العدو الخارجي المتمثل ب «إسرائيل» كافية لإقناع الشعوب بالصمت عن ممارسات النظم السياسية، واحتكارها الفضاءات العامة، وتهميش معظم السكان، في الوقت الذي تنمو فيه ثروات قلة قليلة من النخب بشكل فاضح، وينعدم المستقبل أمام أجيال جديدة من الشباب، ووصلت البطالة بين الشباب المتعلم، بحسب بعض الإحصاءات، إلى ما نسبته 50%، كما في مصر.
أما الجيوش العربية فقد خسرت وظيفتها الخارجية، مع حالة توازن الردع مع «إسرائيل»، وأصبحت مؤسسات وظيفية، تقوم بحماية النظم السياسية، مع استهلاكها جزءاً مهمّاً من الناتج القومي، من دون أي مردود حقيقي، كما بقي نقاش تحويل تلك الجيوش إلى جيوش احترافية حيادية خارج سياق التداول العام.
إن المتن الحقيقي لأي سياسة وطنية يتمثل في قدرة تلك السياسة على تصميم وتنفيذ خطط تنموية اقتصادية واجتماعية، في الحقول الرئيسية، من مثل التعليم، والصحة، والعمل، والخدمات، وضمان توزيع الثروة بطريقة عادلة، ووجود مؤسسات كفيلة بالمحاسبة والمساءلة، وهي ما باتت تعرف اليوم بالحوكمة، فكلما كانت البنى الوطنية متماسكة كلّما كان بإمكانها ضمان مستوى أعلى من الاستقرار السياسي، والمجتمعي، وكلّما كان بإمكانها مواجهة التحديات الخارجية، وهي تحديات تزداد مع فشل النظم السياسية، وعدم قدرتها على اكتساب الشرعية الداخلية.
وعلى الرغم من كل المآسي التي وقع فيها العالم العربي نتيجة لانعدام المتن في سياساته، أو تهميش ذلك المتن لمصلحة العامل الخارجي، أي في مصلحة استمرار الشرعية بوصفها شرعية استمرار النظام السياسي، إلا أن معظم المؤشرات والمعطيات تفيد بأن النظم السياسية العربية ما زالت غير راغبة بعمل استدارة، باتت أكثر من ضرورية، نحو المتن، بل إنها ما زالت تولي العامل الخارجي اهتماماً يفوق بأضعاف مضاعفة اهتمامها بالسياسات التنموية، التي لا يمكن أن تحدث من دون مدخل سياسي، عنوانه الرئيسي إنهاء دولة المحسوبية، لمصلحة دولة المواطنة.

حسام ميرو
husammiro@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى