قضايا ودراسات

فنجان قهوة.. آخر

يوسف أبولوز

.. صالح الخريبي، اسم علم اختار أن يختفي في اسم يومي، «أبو خلدون» رمز الطيبة، ونقاء الزمالة، وكرم الروح.
أيام وسنوات كان «أبو خلدون» توقيعاً منتظماً في عموده اليومي «فنجان قهوة» في هذا المكان من جريدتنا «الخليج» بيتنا، وملاذ قلوبنا، ورفقة أرواحنا.
كتب صالح الخريبي بتدفق، وسلاسة، وعلمية، وموسوعية، وقبل وبعد ذلك كتب بمهنية صحفية لا تتوفر إلا لقلة من أهل مهنة المتاعب (الصحافة) أو صاحبة الجلالة.
كانت جملته اليومية بين الزملاء في «الخليج».. «هلا بالحبيب»، والجملة هذه.. لم تكن عابرة أو عشوائية، بل هي تعبير من الوعي إلى اللاوعي، فكل صحفي أو كاتب أو موظف في «الخليج» كان أخاً له، أو ابنه، أو صديقه، أو زميله، بأريحية إنسان ممتلئ بذاته المثقفة والعملية، والسبّاقة إلى كل ما هو تحديثي وجديد في المهنة.
كان يكتب يومياً بلا لهاث وبلا فجوات. دائماً عموده كان صاعداً ومتجدداً وغنياً بالمعلومات مع لمسة من بهارات الأدب، والكثير من حيثيات العلوم والمعارف الجديدة.
في هذا المكان من جريدتنا وفضائنا اليومي الحيوي كان صالح الخريبي (أبو خلدون) حاضراً، ونقياً وعاشقاً حتى العظم للمهنة التي لم يعرف غيرها طيلة حياته، فعاش أقرب إلى المتقشف.. المكتفي دائماً بالقليل والقنوع بكرامة من هذه الفانية.
رحل «أبو خلدون» في العام 2010.. ولم يجف قلمه، كما لم تذبل في داخله شعلة الكتابة في أكثر من موضوع. من السياسي المغلف بالثقافي، أو الثقافي المغلف بالاجتماعي أو الإنساني المغلف بالجمالي والإنساني.
صالح الخريبي، استاذي وصديقي معتزاً أيضاً، أنني زاملته في «الخليج»، وتعلمت منه، واحترمت داخله الإنساني المتواضع.. كان من أوائل من وضعوا اللبنات الأولى في الصحافة الكويتية. من 1973 إلى 1990 في «القبس» ثم مرّ على وكالة «أورينت برس».. ثم في دارنا «الخليج» من العام 1995 وحتى رحيله في 2010.
خمسة عشر عاماً أمضاها «أبو خلدون» في «الخليج» لم أسمع خلالها منه كلمة بل حرفاً نابياً. لم يجرح أحداً، لم يستكبر على أحد. لم يتذمر من أحد. لم يأكل لحم أحد.
في أول تعرّفي إليه في «الخليج» استطعت أن أكتشف أنه يكتب الشعر. وبذلت جهداً لكي أحصل منه على بعض النصوص، ولكنه كان يضحك ويفرّ فراراً مؤدباً خجولاً من كينونة الشاعر الصغير الغامض فيه إلى كينونة الصحفي وكبرياء هذه الكينونة.. في منطقة نفسية خاصة به.
منذ سبع سنوات ألقى علينا «أبو خلدون».. الإنسان، الطيب، الخلوق، الكريم تحية الصباح الأخيرة. توقف عموده اليومي «فنجان قهوة»، ولكن لم يتوقف حضوره الأخلاقي والمهني في ذاكرة أهل الدار «الخليج»، وقام مركز الخليج للدراسات بجمع مقالات «أبو خلدون» بعد رحيله في كتاب بعنوان «فنجان قهوة» صدر عن المركز في 2010. كتاب نعود إليه دائماً لنلاقي طيف زميل أستاذ، ومهني معلم يغمره تواضعه حتى يحمرّ وجهه..
تحية إليك في غيابك الذي يتحول إلى حضور أخي ومعلمي، وها أنذا امتداد آخر بروحية أخرى أخذت منك شيئاً من جوهرها المهني والروحي في هذا المكان الأليف.. وبهذا «الرفيف» اليومي بذات كاتبة ولا تعرف شيئاً سوى روح الكتابة.
فنجان قهوة آخر.. ولكن بسكرّ أقل.

y.abulouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى