في أي ربيع تغطّ ريشتك؟
د. نسيم الخوري
كان المعلمون العرب مع إطلالة الربيع، يقفون أمام طلابهم الصغار في الصفوف ويكتبون على اللوح الأسود: ها قد أطل أو أقبل فصل الربيع. صف شعورك وعواطفك؟
كان ذلك في غابر الأزمان في بلاد العرب وفلسطين وسوريا ولبنان. وكان من الطبيعي أن تقفز هذه الذكرى المنسية إلى الانتباه، عند الخروج من بيروت العاصمة وشاشاتها، إلى التلة المقفرة الخضراء في جبل لبنان، الناظرة نحو بلاد العرب والخليج. قفز الربيع نحو الوجدان، وكأنه القنبلة المحشوة بكل الحزن والقهر والأسف ومآسي الأرض، والأنظمة والظلامات التي تغطي البصر والبصيرة، لا كما العادة مثل الفراشة الباردة أو العصفور الذي يتحضر لبناء عشه.
في أي ربيع تغط ريشتك العربية؟
لا يتجاوز فصل الربيع الأشهر الثلاثة في البلاد التي منحها موقعها ميزة البلاد المعتدلة. تلك هي القاعدة المعروفة القديمة التي رُبينا عليها، وكان يمكن معاينتها في بلاد الشام، لكن الصراعات الدولية الهائلة المقيمة في ربيع المتوسط، تمكنت من كسر القواعد المألوفة كلها في بلاد العرب والمسلمين وعقولهم، لا في بلاد الشام وحسب؛ بصفتها ولادة المتغيرات والمفارقات:
1 المفارقة الأولى عندما أفرغت مضمون الربيع العربي من تسميته وجمالياته الطبيعية، وإشراقه وألقه وحشوه بمضامين القتل والتدمير والإرهاب والحروب المستحيلة، والقيادات المربكة العاجزة عن الكشف عن الهدوء في وجه هذا المتوسط. بات «الربيع العربي» عبر الأجيال، كلمتين مسجونتين كتابة بين قوسين، تدليلاً على غرابة ووحشية ما يحصل في الرقعة العربية، بعدما أقامت الحروب المتنوعة الأسماء والأسباب بتداعياتها وتحالفاتها الإقليمية في بلادنا، لتحوّل أهل الاعتدال وبلادهم إلى معاقل الإرهاب ومنابته.
2 المفارقة الثانية أن هذا «الربيع» الغريب العجيب، الذي كتبت سطوره الحمر الأولى ملتهبة من تونس الخضراء، سرعان ما ذبل ياسمينه، ليحط في سوريا بعدما مر بمصر وليبيا والعراق واليمن، بصفتها بلاد مختلفة المناخ. ترخي الحروب «ربيعها» ومصائبها في بلاد الشام منذ ما يتجاوز سبع سنوات، لتصبح سوريا تحديداً البقعة الأكثر دموية ووعورة، وكأنها الأخطر على وجه الأرض وفي العقل العالمي المتنوع.
يتثاقل ليل التفاهم الدولي، وما إن يلوح بريق حل وتفاهم واستقرار حتى تنشب حروب جديدة متناسلة عالقة بأذيال بعضها بعضاً. يمكن النظر إلى «ربيع سوريا» بكونه فصلاً هائلاً، لثبات الجيش السوري في حروب هندسية مقيمة للقوات الروسية والأمريكية والإيرانية والتركية، و«إسرائيل» هناك، قتالها فصول قتال دوارة من إيران والعراق ولبنان وباكستان وأفغانستان، والأكراد الموصولين بالإرادة الأمريكية والفصائل المتنوعة من بقايا «داعش» والإرهابيين، والعصابات الفالتة والمرتزقة والمتمردين المحليين والمعارضين المعادين للنظام السوري، إلى المقاتلين الروس. إنها أكبر من برميل بارود تتداخل فيها الحروب المؤجلة والمؤجرة والمعقدة.
كيف؟
حروب هندسية رسمتها الدماء والخرائب بدقة:
تقاتل أمريكا وتقيم في سوريا، لكنها لن تصل إلى الحرب مع روسيا، لا احتراماً لكلمات السر بين الكبار فقط، بل لصعوبة نسيان مرارة تجربتيها في أفغانستان والعراق. تقاتل أكثر، بعدما خفت وطأة هموم كوريا الشمالية، التي بالرغم من تهديداتها النووية لها بصواريخها البالستية، لم تكن سوى منظار تتطلع أمريكا عبره إلى الصين وما بعدها.
تقيم روسيا وتقاتل في سوريا بعدما راكمت خبراتها المرة في أفغانستان، وهي لن تشتبك مع أي من الأطراف، تعنيها سوريا قاعدة أوسطية ومصادر نفطية وكهربائية، وتبدو ببطئها وكأنها لم تستعد تاج عظمتها الدولية كاملاً بعدُ من هناك.
تقاتل إيران بدورها في سوريا وتقيم هناك، بعد حربها مع العراق وفيه، ويتراكم «الأخصام» في وجه تطلعاتها البعيدة، ويساورها القلق راهناً في الداخل. تقاتل تركيا على رؤوس أصابعها من دون إغضاب أمريكا، وفي تناغم سحري وخوف دفين حيال مستقبل الأكراد، الذي يجمعها بإيران وسوريا والعراق.
ليس باستطاعة أي طرف التراجع أو التنازل لآخر، كما لا يستطيع أحد تحمل أعباء الاستمرار سواء داخل بلده أو داخل سوريا، كما لا يقوى أي طرف على تحقيق الاستقرار وحيداً أو بالتفاوض الفاضي، بمعنى الفارغ، والكل عاجز مالياً ومقدرة ونفوذاً عن إيجاد مخرج لإعادة إعمار سوريا بعد تدميرها.
drnassim@hotmail.com