في «إسرائيل» يعيشون «الصدمة»
د. محمد السعيد إدريس
مثلما شكّل رد الفعل العربي الأول على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لـ «إسرائيل» يوم «صدمة»، لفداحة مثل هذا القرار الذي جاء عبثياً وضارباً عرض الحائط بكل قرارات الشرعية الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والأمم المتحدة، ناهيك عن القواعد الثابتة للقانون الدولي بالنسبة لواجبات «دولة الاحتلال» و«حقوق شعب الأرض المحتلة»، كانت «الصدمة» أيضاً هي رد فعل قطاعات «إسرائيلية» واسعة من عمق «النخبة الحاكمة» وقادة الرأي الذين أفزعهم قرار ترامب، بقدر ما أسعدهم من منظور ما يتحسبون له من أثمان يتوقّعون أن عليهم أن يدفعوها مقابل الحصول على هذا الاعتراف.
بعض «الإسرائيليين» هالهم كل ذلك الضجيج الذي أحدثه قرار اعتراف ترامب بالقدس، والمقصود هنا هو ضجيج الفرح والسعادة. هؤلاء أدركوا أن هذه الفرحة لم تأت من فراغ، فعلى الرغم من مرور 50 عاماً على احتلال القدس (الشرقية) منذ يونيو 1967، ثم إعلان ضمّها الرسمي عام 1980، وعلى الرغم من أنهم يعيشون كل تلك السنوات، وهم يردّدون أنهم «يعيشون في عاصمتهم التي يزيد عمرها على 3000 سنة»، حسب ما كتب «أرييه الداد» في صحيفة «معاريف»، إلا أن فرحتهم بقرار الاعتراف الأمريكي أعادتهم إلى رشدهم ولو للحظات، فقد أثبتت هذه الفرحة، باليقين، أنهم كانوا في حاجة إلى هذا الاعتراف، الأمر الذي يزعزع نفسياً هذا اليقين، فهم من داخلهم مطاردون بالحقيقة التي يعرفونها وهي أنهم «سرقوا وطناً من شعبه وسرقوا عاصمة من شعبها».
هذه الصدمة النفسية لا ينافسها أكثر من الصدمة السياسية. فهم ينظرون إلى «تبعات القرار» من زاويتين، الأولى هي الثمن الذي على «إسرائيل» أن تدفعه مقابل الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لدولتهم. من يدقّقوا في هذا الثمن يقولوا: «ليته (ترامب) لم يفعل». فهم يرددون أنهم يعيشون في القدس باعتبارها عاصمتهم، والعالم كله يعرف ذلك بما فيه الشعب الفلسطيني والدول العربية، ولم يكونوا في حاجة إلى هذا الاعتراف الذي قد لا يقدرون على دفع ثمنه، ويتخوّفون من أن يعاملهم ترامب بالقانون الذي يجيده كرجل أعمال، وإذا تعامل مع موضوع اعترافه بالقدس باعتباره «صفقة».
يقول «ألوف بن دافيد» في «معاريف»، تعليقاً على هذا الاستنتاج، إن «المرء ينبغي أن يكون أعمى كي لا يرى الخطوة التي يطبخها ترامب.. فليس مصادفة أنه أطلق إعلان اعترافه (بالقدس عاصمة لإسرائيل) في ساعة البث «الإسرائيلية» العليا، وليس الأمريكية»، أي أنه يخاطب الرأي العام «الإسرائيلي»، الذي عليه أن يكون مستعداً لدفع الثمن. وهذا الثمن يعرفه «الإسرائيليون» جيداً، أو على الأقل يتوقّعونه، ويصفه «أريه ألداد» بأنه «ثمن بالعملة الإقليمية في قلب وطننا: الاعتراف بدولة فلسطينية في يهودا والسامرة وغزة وتسليم أراضي وطننا إلى دولة كهذه»!!
ما يزيد من شعور «الإسرائيليين» بفداحة الثمن المطلوب دفعه، أن هذا الاعتراف جاء في وقت يعيش فيه بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة «أضعف حالاته» التي يعرفها ترامب جيداً، فهو على أبواب التحقيق معه في قضايا فساد، ومكانته تبدو متهالكة، وهناك تخوّف من أن ينهار، وهو في مثل هذه الحالة، أمام ضغوط ترامب لإجباره على المضي معه في مشروعه الذي يعدّه للتسوية مع الفلسطينيين، والذي يعتبر قرار الاعتراف بالقدس مجرد مقدمة له.
هناك منظور آخر للتخوفات من القرار الأمريكي، ويتعلّق بردود الفعل الفلسطينية والعربية والدولية لقرار ترامب. فما كان يعتقد أنه نجاح في احتواء وترويض «هبّة السكاكين» قبل أن تتحوّل إلى انتفاضة ثالثة، جاء قرار ترامب ليقدّم كل المبررات والدعم لتفجير مثل هذه الانتفاضة، ليس هذا فقط بل ليضع السلطة الفلسطينية أمام اختبار صدقية غير مسبوقة. ف «اتفاق أوسلو» الذي ظلّت السلطة تروّج له منذ عام 1993 وتنتظر منه الرجاء، بعثره قرار ترامب، الذي أنهى عملياً أي حديث عن سلام أو تسوية وجعل خيار المقاومة هو الرد الطبيعي، وهو أسوأ ما كانت تنتظره أو تتوقعه «إسرائيل».
عربياً، لا يقل الخطر، من منظور «إسرائيل»، عنه على المستوى الفلسطيني. فرسمياً وجدت الدول العربية نفسها مدفوعة للذود عن نفسها أمام ضغوط الرأي العام، فوفقاً لمقررات اجتماع وزراء الخارجية الطارئ بالقاهرة، سيتوجّه العرب إلى مجلس الأمن، وبناء على رد الفعل الأمريكي في مجلس الأمن قد يذهبون إلى دورة للجمعية العامة للأمم المتحدة. أما دولياً، فقد فشلت جولة نتنياهو الأوروبية في تغيير موقف دول الاتحاد الأوروبي الرافض للقرار الأمريكي، وصدم بصراحة موقف فيديريكا موجيريني وزيرة خارجية الاتحاد، وقبلها موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن «الدول الأوروبية متمسكة بحل الدولتين وفق القوانين والمواثيق الدولية، وبالقدس عاصمة للدولتين».
نتائج تؤكد حقيقة مشاعر «الصدمة» بكل مرارتها لدى «الإسرائيليين» التي بدّدت كل «فرحة» حتى ولو كانت مفتعلة، وأكدت أن القادم «من الصعب أن يكون أفضل».
msiidries@gmail.com