قضايا ودراسات

قبرص.. الارتهان للماضي يطيل الأزمة

محمود الريماوي
يرتبط اسم جمهورية قبرص في الذاكرة بشخصية بارزة هي الأسقف مكاريوس أول رئيس للبلاد عقب استقلالها في العام 1960. فهو من رجال الدين المتحررين الذين خاضوا نضالاً إلى جانب شعبهم من أجل الحرية، وقد عرفت المنظمة التي يقودها ب«ايوكا» وقد قامت سلطات الاحتلال البريطاني بنفيه إلى جزيرة سيشل (في المحيط الهندي) في إطار قمع انتفاضة شعبية لكن هذه الانتفاضة لم تتوقف فاضطر البريطانيون لإخلاء سبيله بعد أشهر من احتجازه.
وتبعاً لانقسام القبارصة بين من هم من أصل يوناني ومن هم من أصل تركي، فإن مكاريوس ينتمي للقبارصة اليونانيين. ومع إيمان الرجل بأهمية إقامة علاقة مع الجارة الكبيرة اليونان؛ إلاّ أنه كان ينشد الاستقلال وليس الانضمام إلى اليونان كما كان يدعو إلى ذلك متعصبون قوميون. وقد عرف الرجل بأنه واضع أول دستور وطني يمنح حقوقاً للجميع ومنها تعيين قبرصي تركي نائباً للرئيس، مع الموافقة على بقاء قوات تركية بنحو 750 جندياً وقوات يونانية بزهاء ألف جندي من أجل طمأنة جميع المكونات وضمان السلم الأهلي، وقد توفي في العام 1977 بعلاقاته الوثيقة مع العالم العربي ومع مصر في عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.
هذه الأيام تجري مفاوضات في سويسرا برعاية الأمم المتحدة بين ممثلي جمهورية قبرص وممثلي قبرص التركية التي تمثل الشطر الشمالي من البلاد والتي لم تحظ سوى باعتراف تركيا. ومن الصعب حصر عدد اللقاءات والمبادرات الدبلوماسية من أجل توحيد شطري الجزيرة. ويعود الانقسام أساساً إلى ميراث تاريخي تمثل في سيطرة الامبراطورية العثمانية على الجزيرة ثم تخليها عنها لبريطانيا. وقد نجم عن ذلك وقبل أن ينشأ الكيان القبرصي ومع سيولة التنقل والإقامة، وجود ثنائية قومية تضم من هم من أصول يونانية بنسبة الثلثين، ومن هم من أصل تركي بنسبة الثلث. وفي غمار الانتفاضة التي اندلعت في سنوات الخمسينات فقد نشأت احتكاكات خطيرة بين المكونين اليوناني والتركي، في ما يشبه حرباً أهلية مصغرة.
أما في الستينات ومع السنوات الأولى للاستقلال فقد تراجع مكاريوس عن الصيغة الأصلية وطالب بإدخال تعديلات عليها بما يحدّ من حقوق المكون التركي، وهو ما استجاب له المكون اليوناني وأثار حفيظة المكون التركي وظلت الاضطرابات مشتعلة وقد دخلت الجزيرة قوات سلام دولية في العام 1974 دون أن تنطفئ الاضطرابات التي ظلت تهدأ وتشتد لعشر سنوات لاحقة. وأمام ذلك وقع في العام 1974 انقلاب عسكري أطاح بمكاريوس، وبموازاة ذلك تدخلت قوات تركية وأعلنت شمال الجزيرة دولة مستقلة تحت حمايتها.
وبينما تعتبر اليونان وتركيا وبريطانيا الدول الضامنة للسلام في هذا البلد، فإن المفاوضات الأخيرة في سويسرا تقوم عملياً بين اليونان وتركيا. وتدور المفاوضات حول مطالب الجانب القبرصي/ التركي بتوفير الأمن للشطر الشمالي مع ضمانات لذلك على الأرض، بما يعني الدعوة لبقاء القوات التركية (نحو 35 ألف جندي) أو جزء كبير منها، وهو ما يرفضه الجانب الآخر. وواقع الحال أن تاريخ الصراع من أجل الاستقلال قد امتزج بنزاع أهلي، مما يغذي المخاوف من أن يؤدي هذا الموروث إلى تجدد المنازعات.
كما أن الفترة الممتدة لأكثر من أربعين عاماً من الانفصال الجغرافي والديموغرافي، يصعب ردمها بغير ضمانات إقليمية ودولية. بل إن العلاقات الباردة التي يكتنفها الحذر بين أنقرة وأثينا هي ذات انعكاس مباشر على الوضع في قبرص. وهو ما يجعل الآمال متواضعة بإحراز تقدم ملموس في هذه المفاوضات التي توصف بأنها الأخيرة علماً بأنه قد سبقتها مفاوضات في يناير الماضي على الخط الأخضر بين الشطرين ووصفت حينها بأنها الأخيرة أيضاً!. وتعتبر المشكلة القبرصية من المشكلات المزمنة في منطقتنا أسوة بالقضية الفلسطينية والمشكلة الكردية.
و«أفضل» ما في هذه المشكلة أنها لا تقترن باحتكاكات عسكرية، وقد عرفت جمهورية قبرص ازدهاراً منذ ثمانينات القرن الماضي وأصبحت لاحقاً عضواً في الاتحاد الأوروبي. أما الشطر الشمالي فهو أقل ازدهاراً ويصعب الحديث عن وجود دولة مستقلة في الشمال، كما يصعب التسليم ببقاء الانشطار إلى ما لا نهاية، فالتركة التاريخية لا تسوغ البقاء في أسر الماضي لإدامة انفصال جزء من البلاد.

mdrimawi@yahoo.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى